بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال تعالى ﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ (محمد:24)
ظاهر هذه الآية أن القرآن الكريم له قابلية الفهم والإدراك من قبل البشر جميعا، وأن ذلك هو الموافق لجعل القران خطاب من الله سبحانه وتعالى لهداية البشر، وإلا فكيف يكون القرآن كتاب هداية وهو يكتنف الغموض في استيعاب مطالبه وفهمه.
الناظر لسيرة الرسول الأعظم وأهل بيته عليهم السلام والصحابة والتابعين وسيرة المتشرعة أن القرآن كان مرتكزا لاحتجاجاتهم واستشهاداتهم في مختلف القضايا والوقائع.
إذا القرآن الكريم كتاب له قابلية الفهم البشري حسب مدركاته العقلية. إلا أن هذا الفهم للنص القرآني هل يمكن القول بانه مطابق دائما لما يريده الله أم لا.
وهل هناك أساسيات لفهم النص القرآني أم أنه يكفي للفهم الإطلاع على علوم اللغة العربية.
وهل أن النص القرآني له فهم متغير حسب تطور العلوم الإنسانية؟ أم النص القرآني غير قابل لتعدد المعاني والمفاهيم حسب متغيرات التاريخ وتطوراته؟
وإذا كان هناك فهما متغيرا للنص القرآني، هل يعني ذلك نفي أن للقرآن حقائق ثابتة في نفسها؟
هذه الأسئلة تنبع من ظهور رأي في هذا الزمن يقول بأن إدخال مناهج العلوم الإنسانية على التراث الإسلامي ضرورة حتمية لكي نفهم الإسلام بشكل جديد يكون قادرا على التصالح مع الحداثة الكونية.
وباعتبار أن النص القرآني هو العمود الأساسي لفهم الدين يرى البعض أنه لا يمكن فهم خطابه إلا بالرجوع على الأصول الأنثروبولوجية، ذلك أن القرآن لا يمكن تحميله لأشياء جاءت بعده من العمل الفقهي والعمل اللاهوتي أي علم الكلام.
لكي نستطيع أن نوضح الخلل في أمثال هذه الأقوال نستعرض عدة مقدمات تكون معينة للجواب عليها:
المقدمة الأول: الفرق بين الواقع وإدراك الواقع:
عندما يسير إنسان من بعيد ثم يختفي وأنا أنظر إليه ولا أراه إلا شبحا من بعيد يمشي على رجلين ولكن لا أميزه هل هو إنسان أم قرد فأقوم بالبرهنة عليه تارة ببعض الخصائص فأثبت أن قرد ويأتي آخر يثبته أنه إنسان.
فإن هنا أمرين:
الأول: هو واقع هذا الشبح بغض النظر عن إدراكي أو إدراك غيري له فهو إنسان في حقيقة الأمر والواقع.
الثاني: إدراكي لهذا الواقع إذ تارة يصيب الإدراك الواقع وتارة يخطئ.
المقدمة الثانية: أن الخطاب يلقيه المتكلم لكي ينقل الصور والمعاني المتكونة في عالم إدراكه للمستمع باعتبار أن الخطاب هو الطريق الأخصر لنقل المعلومات من ذهن المتكلم إلى ذهن السامع.
وهذا أيضا يترتب عليه أمران.
الأول: أن المتكلم ينقل إدراكه للواقع لا أنه ينق نفس الواقع فربما نقل ما يكون مطابقا له وربما لا.
الثاني: أن تلقي المستمع يكون إدراكا لما يريده المتكلم فربما وعى المستمع لما يريده المتكلم من الخطاب وربما لا.
إذا المستمع يدرك الواقع بواسطتين الأولى إدراك المتكلم وثانيهما إدراكه هو لما يريده المتكلم.
فهنا إشكاليتان:
الإشكاليةالأولى: هي إدراك العنصر البشري للواقع، ولحل هذه الإشكالية حتى يكون إدراك الواقع مطابقا للواقع أو يكون أقرب منه فلابد من الالتزام بقواعد وضوابط معرفية تحكم هذا الإدراك، فهناك أسس عامة للإدراك يتبانى عليه العقلاء بما هم عقلاء وهناك أسس خاصة يتبانى عليها أصحاب فن أو علم معين فقواعد وضوابط علم الهندسة الكيميائية تختلف عن ضوابط وقواعد علم تقنية المعلومات.
وعدم جعل هذه الضوابط معناه جعل العلوم مفتتة ليس لها مرتكز وغرض موحد تسعى من أجله بل انه لا يبقى مجالا للجدال والحوار.
ومع هذا نقول بأن احتمالية الخطأ في العنصر البشري وارد في إدراك الواقع باعتبار محدوديته، ولهذا ربما تكون هناك نظرية من النظريات في زمن ما مسلمة بينهم إلا أنها تزول وتكون من التراث الإنساني المنسي عندما يتوسع إدراك الإنسان فيسلم بنظرية أخرى في زمن لاحق.
الإشكالية الثانية: هي الخطاب الموصل والناقل للمدرك فهو يحتاج إلى معالجة كذلك.
من هذه المعالجات هي البحث عن مداليل الألفاظ فأهل اللغة الواحدة يتبانون على أن لفظ كذا يدل على معنى كذا فلفظ أسد يدل على الحيوان المفترس، وعندما يريدون أن يدل على معنى آخر غير الموضوع له كدلالة لفظ الأسد على الرجل الشجاع لابد أن ينصب المتكلم قرينة تدل على المعنى الآخر المجازي هذا ما يتبناه أهل اللغة الواحدة ودون ذلك سيكون من الصعب أو المستحيل أن نتناقل المفاهيم والإدراكات الذهنية عبر الخطاب والألفاظ.
هاتان الإشكاليتان هل هما واردتان على النصوص الدينية أم لا.
النص الديني له طريقان الأول القرآن الكريم والثاني هو الرسول الأكرم وأهل بيته عليهم السلام.
الأول: النصوص القرآنية: بالنسبة للإشكالية الأولى وهي إدراك الواقع فهي غير واردة عليه بتاتا ذلك لأن الواقع بما هو واقع مخلوق لله سبحانه وتعالى وهو العالم بالواقع فعندما يلقي سبحانه وتعالى خطابا فإنا لا نشك ولا لوهلة أن هذا الخطاب يطابق الواقع بل نكون على يقين تام على الإصابة.
نعم بعض النظريات تلغي الواقع عن واقعيته كنظرية التصويب الأشعري إذ تقول بإمكانية تبدل الواقع عن ما هو عليه فمثلا عندما يريد فقيه أن يستنبط حكما من الأحكام الشرعية فإنه يبذل جهده للوصول إلى الحكم وعندما يصل إلى الحكم يكون هذا الحكم هو الواقع، وعندما يأتي فقيها آخر يفتي بخلاف ذلك الحكم يتبدل ذلك الواقع بما يتناسب مع الحكم الثاني وهكذا...
هذه النظرية تتناسب مع الاتجاه الأركوني لفهم النص الديني والقرآني على وجه الخصوص.
وعلى كل حال فإن مثل هذه النظرية تتبن إلغاء الواقع أصلا فلا واقع للأشياء إلا بعد إدراكها بل أن الموجد للواقع هو الإدراك وهو واضح البطلان إذ أنا بالبداهة ندرك أن وراء إدراكاتنا واقع غير الإدراك بل أن إدراكنا للواقع لا يبدل الواقع عما هو عليه فضلا عن كونه إنه يوجد الواقع والمعاذ لله من ذلك لكنا شركاء الله سبحانه في الإيجاد.
إذا هناك واقعا وراء النص القرآني وهو ما تعبر عنه الآية في قوله تعالى ﴿ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ (الزخرف:4)
فالقرآن له مرتبتان: الأولى مرتبة الواقع وهي أم الكتاب وهي المرتبة العليا للقرآن
المرتبة الثانية: هي مرتبة النص القرآني وهي مجموعة من التراكيب اللفظية الدالة على تلك المرتبة.
في هذه المرتبة تتعدد الإدراكات للواقع فمنهم من يصيب الواقع ومنهم من لا يصيب.
وحتى من يصيب الواقع فليس كل أحد يكنه أن يصيب تمام الواقع بل يمكن أن يصيب جزء ونسبة من الواقع، ولا يعني ذلك أن نقول بنسبية الواقع، ولكن نقول بأن الواقع كبير جدا لا يسعه محدودية إدراكنا فنأخذ من الواقع بحسب إدراكاتنا كالبحر عندما نريد أن نأخذ منه الماء فبحسب الوعاء نأخذ منه ولا يعني ذلك أننا لم نصب من البحر.
ومن هنا تأتي أهمية العلوم الأخرى في فهم القرآن فهي توسع إدراك الإنسان للاستيعاب لبعض معاني القرآن لا أنها توجد له إدراكا مغايرا عن الإدراك في الزمن السابق بحيث كل إدراكا يأتي يكون مكذبا للإدراك السابق. نعم لا يمكن إنكار ذلك على مستوى الجزئية أن هناك إدراكات من الأساس كانت خاطئة والعلوم الحديث اكتشفت خطأ هذا الإدراك.
ولكن هذه الإدراكات هي ليست إدراكات معصومة بل هي إدراكات بشرية تتأثر بما حولها من النظريات المختلفة في تفسير القرآن.
ولهذا فحتى تكون هناك ضمانة من عدم وقوع القرآن في مصيدة الإدراك الخاطئ كان من اللازم أن يكون هناك معلما للقرآن بحيث يسدد الإدراك البشري القابل للخطأ. ولابد أن يكون المعلم معصوما من الوقوع في الخطأ في الواقع بل أن إدراكه يكون دائما مطابقا للواقع وهذا المعلم لن يكون إلا أهل البيت عليهم السلام. (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (البقرة:151)
(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (آل عمران:164)
(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الجمعة:2)
فالرسول الأكرم صلى الله عليه وآله كما أنه واسطة الغيب في إيصال كتاب الله لجميع البشرية كذلك عليه تعليم الناس بواقع الخطاب القرآني وإعطائم الضوابط الصحيحة لفهم واقع النصوص القرآنية، ولكن لما لم يكن الناس والصحابة في ذلك الوقت مؤهلين في ذلك الوقت الضيق لتقلي تمام العلوم القرآنية ووصولهم إلى مقام فهم تمام ما يرمي إليه القرآن الكريم فكان لا بد من وجود المعلم المستمر الذي يكون مطلعا على جميع حقائق القرآن كما هي في أم الكتاب لكي لا تزيغ الأمة بعده وتضيع علوم القرآن عن ساحة التطبيق البشري الصحيح، وهذا هو أحد أدوار أهل بيت الرسول عليهم السلام باعتبار عصمتهم غير القابلة للفهم الخاطئ لنصوص القرآن، وبذلك يكون القرآن محفوظا ومصونا من التحريف في الفاظه وفهمه.
نعم يأتي الإشكال بأننا كمتلقين من أهل البيت لسنا معصومين من الخطأ فبذلك يقع نفس الإشكال السابق.
والجواب بأن الفترة التي عاشتها العصمة مع القرآن ظاهرة للناس وهي ما تفوق القرنين والنصف تعطي البشرية المساحة الواسعة لفهم النص الديني مع ما ينتاسب لحجم الفهم البشري المحدود وهذا بخلاف ما لو قلنا بأن فترة التعليم كانت في ثلاثة وعشرين سنة ثلاثة عشر سنة كانت في مكة سنين الترقب والعذاب والمحاصرة وبعدها في المدينة المنورة عشر سنين من الحروب وبناء الدولة إضف إلى ذلك عدم قابلية العقول بطبيعتها البشرية للإدراك التام وهم يعيشون المحن تلو المحن والحرب تلو الحرب ولو أضفنا إليها الوصف الواقعي للحال العلمي آنذاك باعتبار أن مكة كانت قعر الجهل العلمي لا تمتلك من الحضارة العلمية أبسط مقومات الفهم العلمي، فكيف لهذه العقول أن تكون بين عشية وضحاها هي أفهم العقول إدراكا على الإطلاق. هذا ما يستدعي إلى الاستغراب والتعجب!
وبهذا يتضح وجوب وجود النفس المعصوم مع القرآن دائما كما قال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: علي مع القرآن والقرآن مع علي. إذ لا بد لمعلم حقائق القرآن أن يكون مطلعا على ماهية القرآن في أم الكتاب ولا يمكن لغيرهم إدعاء ذلك إذ العصمة فيصل بينهم عليهم السلام وبين باقي الأمة أنارها الله بنور الإيمان ووحد كلمتها ولملم شملها على الحق واتباع الهدى إنه سميع الدعاء.
والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال تعالى ﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ (محمد:24)
ظاهر هذه الآية أن القرآن الكريم له قابلية الفهم والإدراك من قبل البشر جميعا، وأن ذلك هو الموافق لجعل القران خطاب من الله سبحانه وتعالى لهداية البشر، وإلا فكيف يكون القرآن كتاب هداية وهو يكتنف الغموض في استيعاب مطالبه وفهمه.
الناظر لسيرة الرسول الأعظم وأهل بيته عليهم السلام والصحابة والتابعين وسيرة المتشرعة أن القرآن كان مرتكزا لاحتجاجاتهم واستشهاداتهم في مختلف القضايا والوقائع.
إذا القرآن الكريم كتاب له قابلية الفهم البشري حسب مدركاته العقلية. إلا أن هذا الفهم للنص القرآني هل يمكن القول بانه مطابق دائما لما يريده الله أم لا.
وهل هناك أساسيات لفهم النص القرآني أم أنه يكفي للفهم الإطلاع على علوم اللغة العربية.
وهل أن النص القرآني له فهم متغير حسب تطور العلوم الإنسانية؟ أم النص القرآني غير قابل لتعدد المعاني والمفاهيم حسب متغيرات التاريخ وتطوراته؟
وإذا كان هناك فهما متغيرا للنص القرآني، هل يعني ذلك نفي أن للقرآن حقائق ثابتة في نفسها؟
هذه الأسئلة تنبع من ظهور رأي في هذا الزمن يقول بأن إدخال مناهج العلوم الإنسانية على التراث الإسلامي ضرورة حتمية لكي نفهم الإسلام بشكل جديد يكون قادرا على التصالح مع الحداثة الكونية.
وباعتبار أن النص القرآني هو العمود الأساسي لفهم الدين يرى البعض أنه لا يمكن فهم خطابه إلا بالرجوع على الأصول الأنثروبولوجية، ذلك أن القرآن لا يمكن تحميله لأشياء جاءت بعده من العمل الفقهي والعمل اللاهوتي أي علم الكلام.
لكي نستطيع أن نوضح الخلل في أمثال هذه الأقوال نستعرض عدة مقدمات تكون معينة للجواب عليها:
المقدمة الأول: الفرق بين الواقع وإدراك الواقع:
عندما يسير إنسان من بعيد ثم يختفي وأنا أنظر إليه ولا أراه إلا شبحا من بعيد يمشي على رجلين ولكن لا أميزه هل هو إنسان أم قرد فأقوم بالبرهنة عليه تارة ببعض الخصائص فأثبت أن قرد ويأتي آخر يثبته أنه إنسان.
فإن هنا أمرين:
الأول: هو واقع هذا الشبح بغض النظر عن إدراكي أو إدراك غيري له فهو إنسان في حقيقة الأمر والواقع.
الثاني: إدراكي لهذا الواقع إذ تارة يصيب الإدراك الواقع وتارة يخطئ.
المقدمة الثانية: أن الخطاب يلقيه المتكلم لكي ينقل الصور والمعاني المتكونة في عالم إدراكه للمستمع باعتبار أن الخطاب هو الطريق الأخصر لنقل المعلومات من ذهن المتكلم إلى ذهن السامع.
وهذا أيضا يترتب عليه أمران.
الأول: أن المتكلم ينقل إدراكه للواقع لا أنه ينق نفس الواقع فربما نقل ما يكون مطابقا له وربما لا.
الثاني: أن تلقي المستمع يكون إدراكا لما يريده المتكلم فربما وعى المستمع لما يريده المتكلم من الخطاب وربما لا.
إذا المستمع يدرك الواقع بواسطتين الأولى إدراك المتكلم وثانيهما إدراكه هو لما يريده المتكلم.
فهنا إشكاليتان:
الإشكاليةالأولى: هي إدراك العنصر البشري للواقع، ولحل هذه الإشكالية حتى يكون إدراك الواقع مطابقا للواقع أو يكون أقرب منه فلابد من الالتزام بقواعد وضوابط معرفية تحكم هذا الإدراك، فهناك أسس عامة للإدراك يتبانى عليه العقلاء بما هم عقلاء وهناك أسس خاصة يتبانى عليها أصحاب فن أو علم معين فقواعد وضوابط علم الهندسة الكيميائية تختلف عن ضوابط وقواعد علم تقنية المعلومات.
وعدم جعل هذه الضوابط معناه جعل العلوم مفتتة ليس لها مرتكز وغرض موحد تسعى من أجله بل انه لا يبقى مجالا للجدال والحوار.
ومع هذا نقول بأن احتمالية الخطأ في العنصر البشري وارد في إدراك الواقع باعتبار محدوديته، ولهذا ربما تكون هناك نظرية من النظريات في زمن ما مسلمة بينهم إلا أنها تزول وتكون من التراث الإنساني المنسي عندما يتوسع إدراك الإنسان فيسلم بنظرية أخرى في زمن لاحق.
الإشكالية الثانية: هي الخطاب الموصل والناقل للمدرك فهو يحتاج إلى معالجة كذلك.
من هذه المعالجات هي البحث عن مداليل الألفاظ فأهل اللغة الواحدة يتبانون على أن لفظ كذا يدل على معنى كذا فلفظ أسد يدل على الحيوان المفترس، وعندما يريدون أن يدل على معنى آخر غير الموضوع له كدلالة لفظ الأسد على الرجل الشجاع لابد أن ينصب المتكلم قرينة تدل على المعنى الآخر المجازي هذا ما يتبناه أهل اللغة الواحدة ودون ذلك سيكون من الصعب أو المستحيل أن نتناقل المفاهيم والإدراكات الذهنية عبر الخطاب والألفاظ.
هاتان الإشكاليتان هل هما واردتان على النصوص الدينية أم لا.
النص الديني له طريقان الأول القرآن الكريم والثاني هو الرسول الأكرم وأهل بيته عليهم السلام.
الأول: النصوص القرآنية: بالنسبة للإشكالية الأولى وهي إدراك الواقع فهي غير واردة عليه بتاتا ذلك لأن الواقع بما هو واقع مخلوق لله سبحانه وتعالى وهو العالم بالواقع فعندما يلقي سبحانه وتعالى خطابا فإنا لا نشك ولا لوهلة أن هذا الخطاب يطابق الواقع بل نكون على يقين تام على الإصابة.
نعم بعض النظريات تلغي الواقع عن واقعيته كنظرية التصويب الأشعري إذ تقول بإمكانية تبدل الواقع عن ما هو عليه فمثلا عندما يريد فقيه أن يستنبط حكما من الأحكام الشرعية فإنه يبذل جهده للوصول إلى الحكم وعندما يصل إلى الحكم يكون هذا الحكم هو الواقع، وعندما يأتي فقيها آخر يفتي بخلاف ذلك الحكم يتبدل ذلك الواقع بما يتناسب مع الحكم الثاني وهكذا...
هذه النظرية تتناسب مع الاتجاه الأركوني لفهم النص الديني والقرآني على وجه الخصوص.
وعلى كل حال فإن مثل هذه النظرية تتبن إلغاء الواقع أصلا فلا واقع للأشياء إلا بعد إدراكها بل أن الموجد للواقع هو الإدراك وهو واضح البطلان إذ أنا بالبداهة ندرك أن وراء إدراكاتنا واقع غير الإدراك بل أن إدراكنا للواقع لا يبدل الواقع عما هو عليه فضلا عن كونه إنه يوجد الواقع والمعاذ لله من ذلك لكنا شركاء الله سبحانه في الإيجاد.
إذا هناك واقعا وراء النص القرآني وهو ما تعبر عنه الآية في قوله تعالى ﴿ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ (الزخرف:4)
فالقرآن له مرتبتان: الأولى مرتبة الواقع وهي أم الكتاب وهي المرتبة العليا للقرآن
المرتبة الثانية: هي مرتبة النص القرآني وهي مجموعة من التراكيب اللفظية الدالة على تلك المرتبة.
في هذه المرتبة تتعدد الإدراكات للواقع فمنهم من يصيب الواقع ومنهم من لا يصيب.
وحتى من يصيب الواقع فليس كل أحد يكنه أن يصيب تمام الواقع بل يمكن أن يصيب جزء ونسبة من الواقع، ولا يعني ذلك أن نقول بنسبية الواقع، ولكن نقول بأن الواقع كبير جدا لا يسعه محدودية إدراكنا فنأخذ من الواقع بحسب إدراكاتنا كالبحر عندما نريد أن نأخذ منه الماء فبحسب الوعاء نأخذ منه ولا يعني ذلك أننا لم نصب من البحر.
ومن هنا تأتي أهمية العلوم الأخرى في فهم القرآن فهي توسع إدراك الإنسان للاستيعاب لبعض معاني القرآن لا أنها توجد له إدراكا مغايرا عن الإدراك في الزمن السابق بحيث كل إدراكا يأتي يكون مكذبا للإدراك السابق. نعم لا يمكن إنكار ذلك على مستوى الجزئية أن هناك إدراكات من الأساس كانت خاطئة والعلوم الحديث اكتشفت خطأ هذا الإدراك.
ولكن هذه الإدراكات هي ليست إدراكات معصومة بل هي إدراكات بشرية تتأثر بما حولها من النظريات المختلفة في تفسير القرآن.
ولهذا فحتى تكون هناك ضمانة من عدم وقوع القرآن في مصيدة الإدراك الخاطئ كان من اللازم أن يكون هناك معلما للقرآن بحيث يسدد الإدراك البشري القابل للخطأ. ولابد أن يكون المعلم معصوما من الوقوع في الخطأ في الواقع بل أن إدراكه يكون دائما مطابقا للواقع وهذا المعلم لن يكون إلا أهل البيت عليهم السلام. (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (البقرة:151)
(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (آل عمران:164)
(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الجمعة:2)
فالرسول الأكرم صلى الله عليه وآله كما أنه واسطة الغيب في إيصال كتاب الله لجميع البشرية كذلك عليه تعليم الناس بواقع الخطاب القرآني وإعطائم الضوابط الصحيحة لفهم واقع النصوص القرآنية، ولكن لما لم يكن الناس والصحابة في ذلك الوقت مؤهلين في ذلك الوقت الضيق لتقلي تمام العلوم القرآنية ووصولهم إلى مقام فهم تمام ما يرمي إليه القرآن الكريم فكان لا بد من وجود المعلم المستمر الذي يكون مطلعا على جميع حقائق القرآن كما هي في أم الكتاب لكي لا تزيغ الأمة بعده وتضيع علوم القرآن عن ساحة التطبيق البشري الصحيح، وهذا هو أحد أدوار أهل بيت الرسول عليهم السلام باعتبار عصمتهم غير القابلة للفهم الخاطئ لنصوص القرآن، وبذلك يكون القرآن محفوظا ومصونا من التحريف في الفاظه وفهمه.
نعم يأتي الإشكال بأننا كمتلقين من أهل البيت لسنا معصومين من الخطأ فبذلك يقع نفس الإشكال السابق.
والجواب بأن الفترة التي عاشتها العصمة مع القرآن ظاهرة للناس وهي ما تفوق القرنين والنصف تعطي البشرية المساحة الواسعة لفهم النص الديني مع ما ينتاسب لحجم الفهم البشري المحدود وهذا بخلاف ما لو قلنا بأن فترة التعليم كانت في ثلاثة وعشرين سنة ثلاثة عشر سنة كانت في مكة سنين الترقب والعذاب والمحاصرة وبعدها في المدينة المنورة عشر سنين من الحروب وبناء الدولة إضف إلى ذلك عدم قابلية العقول بطبيعتها البشرية للإدراك التام وهم يعيشون المحن تلو المحن والحرب تلو الحرب ولو أضفنا إليها الوصف الواقعي للحال العلمي آنذاك باعتبار أن مكة كانت قعر الجهل العلمي لا تمتلك من الحضارة العلمية أبسط مقومات الفهم العلمي، فكيف لهذه العقول أن تكون بين عشية وضحاها هي أفهم العقول إدراكا على الإطلاق. هذا ما يستدعي إلى الاستغراب والتعجب!
وبهذا يتضح وجوب وجود النفس المعصوم مع القرآن دائما كما قال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: علي مع القرآن والقرآن مع علي. إذ لا بد لمعلم حقائق القرآن أن يكون مطلعا على ماهية القرآن في أم الكتاب ولا يمكن لغيرهم إدعاء ذلك إذ العصمة فيصل بينهم عليهم السلام وبين باقي الأمة أنارها الله بنور الإيمان ووحد كلمتها ولملم شملها على الحق واتباع الهدى إنه سميع الدعاء.
والحمد لله رب العالمين.
شكرا على مجهودك الرائع
ردحذف