الأحد، 26 يوليو 2009

الشفاعة بين العبادة والاستعانة من منظور قوله تعالى ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾

أتفق المفسرون على أنّ تقديم لفظ إيّاك على نعبد ونستعين يراد منها التخصيص أي بمعنى أننا نعبدك لا نعبد غير ك ونستعينك لا نستعين بغيرك وهذا بخلاف ما لو قال نعبدك ونستعينك فإن ذلك لا يمنع العبادة للغير والاستعانة بغيره، فمثلا لو كان هناك شخصين آمرين لك فقلت لأحدهما أطيعك فهذا لا يعني أن لا تطيع الآمر الآخر ولكن عندما تقول له إياك أطيع فمعناه أنك لا تطيعه إلا هو ولا تطيع الآمر الآخر.
هذه الدلالة اللغوية للتخصيص تستفاد من تقديم ماله حق التأخير كما هنا إذ قدم المفعول به على الفعل. ولكن هذه العبادة والاستعانة التي لا تكون إلا لله وحده ما حقيقتهما؟

المراد من العبادة:
ذكر السيد الخوئي عليه الرحمة أن للعبادة ثلاث معان:

الأول هو الطاعة كما في قوله تعالى ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾(يّـس:60)
والحقيقة أن الطاعة من لوازم العبادة فاستعمال القرآن العبادة بدل الطاعة استعمال الملزوم مكان اللازم وذلك لدلالة أن اتباع الشيطان فيما يريده من الإنسان مهما كانت نوعية التبعية هي من قبيل شدة الطاعة والانقياد التي يجب أن لا تكون إلا لله عز وجل، وعليه فعلى الإنسان أن لا يفكر أبد في الانقياد والطاعة للشيطان مهما صغر نوعية المطاع فيه فإنها ستخرجك من عبادة الله وطاعته إلى عبادة الشيطان وطاعته.
والأدهى والأمر من ذلك أن في هذه العصور خرجت فئة من المشرق والمغرب تتسمى وتتفاخر بكونها من عبدة الشيطان أعاذنا الله منهم.

الثاني: الخضوع والتذلل كما في قوله تعالى ﴿فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ﴾ (المؤمنون:47)
هذا جواب فرعون الاستنكاري على رسالة موسى وهارون عليهما السلام إذ كيف تريداني يا موسى وهارون أن نؤمن لبشرين هما من بني جنسنا ولا مزية زائدة لهما بل المزية الزائدة عندنا بأنّ قومهما خاضعون لنا ومتذللون.
وهنا أيضا يمكن القول بأن الخضوع والتذلل من لوازم العبودية واستعمال لفظ العبودية مكان الخضوع والتذلل لبيان المراتب العليا منهما لا أي مرتبة في الخضوع والتذلل والتي يمكن أن تكون لمثل الأب والأم بل هما مرتبتان عليتان من التذلل والخضوع حق أن تسميا بالعبادة أو هي أقرب لذلك ولذا في بيان شدة هذا التذلل والخضوع أقره موسى عليه كما قال تعالى ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ﴾ (الشعراء:22) وإن كان هذا الخضوع والتذلل بالإكراه والجبر إذ كان فرعون يغصبهم على ذلك كما يدل عليه قوله تعالى ﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴾(البقرة:49)

الثالث: التألّه كما في قوله تعالى ﴿قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ﴾ (الرعد:36) وقوله تعالى ﴿ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ﴾ (الزمر:11)
والعبادة هنا في الآيتين المراد منهما التأليه لله سبحانه وتعالى وهذا المعنى كما يقول السيد الخوئي عليه الرحمة هو المعنى المنصرف في العرف العام للفظ العبادة عند إطلاقه. وهذا هو المراد منه في قوله تعالى إيّاك نعبد
وفي الحقيقة هذا المعنى تعريف بما يقابل العبودية، إذ الألوهية تقابلها العبودية، والعبودية من المعاني الإضافية فلا بد من وجود إله يعبد حتى تتحقق العبودية.

أما رأي السيد الطباطبائي عليه الرحمة هو أن العبادة في الآية المراد منها هو نصب العبد نفسه في مقام المملوكية وبذلك يكون معنى الآية إياك يا مالك يوم الدين ننصب أنفسنا مملوكين فيتوجب علينا ملازمات المملوكية الحقة للمالك الحق من الطاعة المطلقة والخضوع والتذلل المطلق.

شهيد المحراب السيد الحكيم عليه الرحمة بعد مناقشته للسيد الطباطبائي يتوصل إلى أن معنى العبودية حقيقة هي التذلل والخضوع لكن لا أي تذلل وخضوع بل التذلل والخضوع المؤطر بإطار التقديس والتعظيم وهذا الخضوع والتذلل المشروط بالتقديس والتعظيم هو المحرم إظهاره لأي أحد غير الله سبحانه وتعالى.
ولكن لا يخلو هذا المعنى من كونه لازم حقيقي لمعنى العبودية.

هذا المعاني للعبادة سواء كانت بمعنى التأليه أو نصب المملوكية أو الخضوع والتذلل المتأطر بالتعظيم والتقديس مما لا ينبغي الشك في كونه لله تعالى وحده والخروج عن هذا المسار يدخل الإنسان في الشرك أو الإلحاد، فالمشركون هم الذين يقومون بعبادة الأصنام وغيرها على أنها الواسطة لله سبحانه وأنها تقربهم لله زلفى (أي يقربونهم تقريبا) كما أشار قوله تعالى ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ (الزمر: من الآية3) وهذه العبادة للأصنام أو الكواكب أو غيرها تقوم على أحد هذه المعاني المذكورة سلفا.

أما الملحدون فهم الذين لا يعترفون بوجود خالق الكون فلا تتحقق منهم العبودية لها ولا التقرب إليه.

المراد من الاستعانة:

الاستعانة هي طلب المعونة ولا تكون إلا من القادر عليها وهي هنا لرفع وهم مقدر فربما يتوهم متوهم من أنّ عبادتنا لله سبحانه متقومة بذواتنا فيأتي هذا المقطع من الآية ليبعد هذا التوهم بأننا في عبادتنا نحتاج إلى الاستعانة بك وحدك وبهذا كما يقول السيد الطباطبائي تشير الآية إلى الإخلاص في العبادة وبذلك تشير الآية على معنى واحد وهو العبادة عن إخلاص.
فالآية تريد أن تربي العبد على كون العبادة من الإنسان غير خارجة عن ملك الله سبحانه وتعالى فكل ما يقوم به العبد من أفعال وأقوال من حركات وسكنات والتي تكون بخضوع وتذلل لله تعالى هي فيض من ملك الله عز وجل كذلك ولذا في ورد في الرواية عن الباقر ( عليه السلام ) قال : قال الله عز وجل لموسى بن عمران ( عليه السلام ) : يا موسى ، اشكرني حق شكري ، قال : يا رب كيف أشكرك حق شكرك والنعمة منك والشكر عليها نعمة منك ؟ فقال الله تبارك وتعالى : إذا عرفت أن ذلك مني فقد شكرتني حق شكري.

وهناك رأي يوسع من معنى الاستعانة في سياق الآية بحيث لا تكون الاستعانة هي مجرد طلب العون إذ أن ذلك غير مقتصر على الله عز وجل فالإنسان عندما تقتصر مقدرته عن إدراك مطلوبه في حاجاته المعيشية يستعين بذلك على غيره حتى يتحصل عليها وكما يعبر عنه بسد باب من أبواب العدم عليه فيستعين بغيره في رفع هذا العدم فالطبيب يستعين بالخباز لكي يعينه في رفع عدم الخبز عنه والخباز يستعين بالطبيب لكي يعينه في رفع حاجته لتشخيص المرض وهكذا.

ولكن الاستعانة المطلقة والتي تتعلق بإيجاد كل الأمور صغيرها وكبيرها وهي التي ترفع العدم لأي أمر لا تكون إلا بيد الله سبحانه وتعالى فطلبها من الله عز وجل وحده إذ لا أحد يمكنه أن يرفع العدم عن شيء من الأشياء بإيجاد جميع أسبابه وشرائط وجوده غير الله عز وجل. وهذه الاستعانة لرفع جميع أبواب العدم وهي التي تسمى في العرف التوفيق
إذا التوفيق الرافع لجميع أبواب العدم لا يكون إلا بالله عز وجل وهو المعبر بالتوفيق نطلبه من الله لا نطلبه من غيره.

إذا هذه الاستعانة تنفي الشرك إذ أن الذين يتقربون لله بواسطة الأصنام يتقربون بالاستعانة بواسطة غيره ويقصدون بأنها ترفع الموانع وتحقق الأسباب للإيجاد أي أنها تنحصر بها أسباب التوفيق فيتحقق الشرك.

إشكال ووهم

إذا بعد التعرض للمعنى من العبادة لله عز وجل ومعنى الاستعانة به فهل يحتاج بني آدم إلى غيره سبحانه للوصول إلى قربه، وكما هو مُشكَل على الشيعة الإمامية بأنهم يتقربون بأئمتهم للتقرب من الله عز وجل، وهل هذا إلا شرك في العبودية والاستعانة، فكيف يصح لنا أن نجعلهم وسائط للتقرب بهم لله عز وجل وكيف يصح لنا أن نستعين بهم في رفع حوائجنا. ومما يؤكد هذا المنحى ظاهر قوله تعالى ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ (البقرة:186) وقوله تعالى﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ (الزمر:36)، فإن المدعي يقول بأن الآية تدل على أنّ على العبد الطلب والدعاء من الله مباشرة من دون أي وساطة فهو قريب من عبده والقريب لا يحتاج إلى واسطة للوصول إليه كما قال تعالى ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ (قّ: من الآية16) وقال تعالى﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ﴾ (الواقعة:85)

هذا الإشكال من فنون المغالطة عند بعض أهل السنة لا كلهم وهو يرتكز على فهم الواسطة التي بين الله وخلقه، فهل كل واسطة بين الله وخلقه الاعتقاد بها يعد من الشرك بحيث تكون نفيا للعبودية المطلقة والاستعانة المطلقة أم أن هناك واسطة بين الله وخلقه تكون هي من تمام العبودية له ومن تمام الاستعانة به وأن هذه الوساطة لا تنفي قرب الله تعالى من عباده.

جواب الإشكال

الواسطة بين الله وخلقه على نحوين واسطة تكوينية وواسطة شرعية.

الواسطة التكوينية: هي العلل الطولية بعد الله عز وجل في الإيجاد من الأسباب والمسببات في الإيجاد، فنحن نعلم أن الله لم يخلق العالَم مباشرة من دون واسطة بل أنه خلق الأرض والسماوات على مراحل ستة عبر عنها بالأيام كما في قوله تعالى ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ (يونس:3) ونحن ندرك ونرى بأن كل إنسان يحتاج في وجوده إلى أسباب عديدة ومراحل عدة، فمن التقاء الحويمن والبويضة وتدرجه في رحم الأم حتى يخرج ثم يأخذ أسباب النمو إلى أن يموت. فكل هذه الأسباب والمسببات هي علل طولية إي في طول العلة الأولى والسبب الأول وهو مسبب الأسباب وهو الله عز وجل.
نعم هذه العلل لا تستطيع أن تنقطع عن المفيض لها الوجود ولا للحظة واحدة فدوام وجودها بوجود الاتصال الفيضي من قبل الله عز وجل ومع ذلك هي واسطة بين الله وبين خلقه، ولذا بإمكاننا السؤال لما لا يخلق الله الإنسان كاملا عاقلا مكلفا مباشرة من دون هذه الوسائط والعلل، هل هناك عجز في ساحته سبحانه وتعالى عن ذلك.
هذه الوسائط ليست عجزا في مقدرة الله وإنما عجز في القابل وهو نحن إذ أننا لا يمكننا أن نتحمل الخلق المباشر من قبل الله من دون تلك الوسائط.

ولكي يكون المعنى واضحا أضرب مثالا من واقع الحياة المادية فعندما يكون عندنا جهازا كهربائيا يحتاج إلى أحاد من الفولتات ويوجد عندنا محطة كهربائية تنتج الآلاف من الفولتات فلا يمكاننا أن نوصل الطاقة المنتجة من المحطة إلى الجهاز الكهربائي مباشرة بل نحتاج إلى عدة محولات حتى نقلل من اندفاع القوة المطلقة إلى الدرجة التي يتحملها الجهاز الكهربائي، وعليه فالمحطة في طاقتها ليست عندها عجز ولا تحتاج إلى الجهاز الكهربائي في أصل طاقتها وإنما الجهاز الكهربائي فقير إلى تلك الطاقة ولكنه غير قابل موضوعا لتحملها مباشرة فاحتاج على الوسائط لإفاضة الطاقة المناسبة له.

هكذا الإنسان وباقي العالم المادي في وجوده يحتاج إلى وسائط متعددة لإفاضة الوجود عليه فلا يمكن للعالم المادي أن يوجد هكذا مباشرة من القدرة المطلقة من دون وسائط لا لعجز القدرة المطلقة وإنما للعجز في القابل وهي الحياة المادية، هذه الواسطة بين العالم المادي الضعيف في الوجود وبين الله عز وجل ذو القدرة المطلقة هم أهل البيت عليهم السلام.
وبهذا المعنى جملة من الروايات نذكر منها
عن أبي الحسن الثالث ( عليه السلام ) أنه قال : " إن الله جعل قلوب الأئمة موردا لإرادته ، فإذا شاء الله شاءوا ، وهو قول الله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ (الانسان:30)

وفي حديث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : " إن الله جعل قلب وليه وكرا لإرادته فإذا شاء الله شئنا ".
وعن أبي محمد ( عليه السلام ) قال : " كذبوا بل قلوبنا أوعية لمشيئة الله فإذا شاء شئنا "
وفي الزيارة المطلقة للإمام الحسين ( عليه السلام ) التي رواها ابن قولويه عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : " بكم فتح الله وبكم يختم الله ، وبكم يمحو الله ما يشاء وبكم يثبت ، وبكم تنبت الأرض أشجارها ، وبكم تنزل السماء قطرها ورزقها . . . إرادة الرب في مقادير أموره تهبط إليكم وتصدر من بيوتكم ".

الواسطة التشريعية: وهي أن تكون هناك وسائط لإيصال أحكام الله عز وجل التكليفية إلى مكلفيه بحيث تكون هذه الوسائط معبرة عن إرادة الله التشريعية أمام خلقه، وهذه الوسائط مما لا يستشكل أحدٌ في وجودها فالأنبياء والرسل من مصاديق هذه الوسائط ولذا أوجب الله محبتهم وطاعتهم قال تعالى ﴿ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران:84)

﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾(آل عمران:32)
فلو نظرنا فإن طاعة الرسول هي طاعة الله وتنفيذ أحكامه على الأرض تنفيذ لأمر الرسول وبالتالي هو تنفيذ لأمر الله فالطاعة لله لا تكون إلا عبر طاعة رسوله فهو الواسطة للوصول إلى طاعة الله فإذا سألنا لماذا لا ينزل الله الأحكام مباشرة من دون توسط شيء للبشر ويطالبهم بتنفيذها مباشرة؟
والجواب عين الجواب الأول عدم مقدرتنا بالاتصال المباشر بالله سبحانه وتعالى للعجز والضعف فينا ولهذا احتجنا إلى نفس تأنس نفوسنا منه وتقبله ولا يكون ذلك إلا من بني جنسنا قال تعالى ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾ (الأنعام:9)
بل يمكننا أن نتعدى أكثر من ذلك فنقول أن طاعته لم يقرنها فقط بالرسول بل حتى أنه علق المغفرة والتوبة على كثير من الخطايا على بعض الناس العاديين فالأب الذي له حق الطاعة التشريعية على الولد لا يستطيع الولد نوال غفران ربه إلا عن طريق رضا أبويه عنه، فهذان من الوسائط والوسائل للطريق إلى الله حتى ورد أن الجنة تحت أقدام الأمهات قال تعالى ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً﴾ (النساء:36) وقال تعالى ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً﴾ (الإسراء:23)

وخلاصة الأمر أن وجود الواسطة بين الله عز وجل وبين خلقه مما لا ينكر تكوينا وتشريعا والتعلق بهذه الوسائط هو ليس من التعلق بغير الله عز وجل بل هو من صميم التعلق بالله، وعليه فالاستعانة بأهل البيت عليهم السلام لأنهم الوسائط التكوينية والتشريعية لباقي خلقة هو تعلق بما يريده الله عز وجل وبما يوجب القرب من الله أكثر فأكثر، وهذا ليس من قبيل عبادة الأصنام والأوثان إذ أن هذه الأمور ابتدعاها الإنسان من دون أن يكون لها حق الوساطة المأذونة من قبل الله أما أهل البيت عليهم السلام فهم مأذونون من قبل الله عز وجل قال تعالى ﴿ يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ﴾(طـه:109) وقال تعالى ﴿ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ﴾ (سـبأ:23) وقال تعالى ﴿ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ﴾ (النبأ:38)
إذا قوله تعالى ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ لا تنافي الوساطة بين الله وخلقه بل أن وساطته المأذونة التمسك بها من عين العبادة وعين الاستعانة قال تعالى ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً﴾ (الإسراء:57)
والحمد لله رب العالمين

مالك محمد علي درويش
24 من شهر رمضان 1428 هـ
كرزكان - البحرين


السبت، 25 يوليو 2009

حب الحسين بين النظرية والتطبيق

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين

هام الشعراء والأدباء في حب الإمام الحسين عليه السلام ولكن كلها ما دون وصف النبي صلى الله عليه وآله في ذلك الحب فقد ورد عنه كما في المستدرك للحاكم النيسابوري ومسند أحمد بن حنبل قوله صلى الله عليه وآله " حسينٌ منّي وأنا من حسين اللّهم أحبَّ من أحبَّ حُسيناً ، حُسينٌ سبطٌ من الأسباط " وورد في صحيح الترمذي قوله صلى الله عليه وآله " هذان ابناي وابنا ابنتي ، اللّهمّ إنّي أُحبُّهما فأحبَّهما وأحبَّ مَن يُحبّهما "

في حب الإمام الحسين هناك نقطتان نبحث فيهما: الحب من الجهة النظرية والحب الجهة التطبيقية

النقطة الأولى: الحب القلبي النظري:

أي حب هذا الذي يريده رسول الله صلى الله عليه وآله منا للإمام الحسين عليه السلام، فالحب ما هو إلا عبارة عن علاقة عاطفية قلبية بين طرفيين، فكيف يمكن لنا أن نتصور منشأ العلاقة القلبية المراد تكوينها بيننا وبين الإمام الحسين عليه السلام؟ للجواب على هذا السؤال نطرح عدة فرضيات:

الفرضية الأولى: أن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله كان يريد هذه العاطفة بإيجادها في قلوبنا على نحو التشريع، أي أن الشارع المقدس يفرض علينا حب الإمام الحسين عليه السلام كواجب من الواجبات مثل وجوب الصلاة والصيام والجهاد وغير ذلك.
هذه الفرضية قابلة للنقاش إذ لا يمكن القول بأن الحب الذي كان يطلبه النبي صلى الله عليه وآله بيننا وبين الإمام الحسين هو على نحو إيجاد العلاقة العاطفية بطريقة تشريعية، إذ أن الوجوبات التشريعية يأتي بها المكلف على نحو امتثال الأوامر الإلهية سواء كان العمل محبوبا للمكلف وقريبا من قلبه أم لا ففريضة الجهاد والقتال لا يشترط في صحتها وامتثالها الحب له ولذا قال الله عز وجل في كتابه العزيز {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }البقرة216
نعم إذا كنا نتكلم عن مقدار قبول العمل عند الله فذلك شأن آخر ولكنه ليس له دخالة في صحة العمل، فإذا كنا نتصور أن للعمل أمران أولهما الصحة والثاني هو القبول فإن الثاني متوقف على الأول فلا يمكن تصور أن العمل يمكن أن يقبل من دون أن يكون صحيحا، ولهذا فإذا كنا نقول أن الوجبات الشرعية بالإمكان أن يأتى بها صحيحة حتى وإن كان عن إكراه فإن ما نحن فيه لا يمكن تصوره على نحو الوجوب التشريعي وذلك لأن الحب أمر اختياري ينشأ من صميم القلب ولا يمكن للشارع جبر الإنسان عليه بالتكليف الشرعي بأن على المكلف أن يولد حبا في نفسه لأحد فإن الجبر لا يولد الحب.

الفرضية الثانية: كون الحب المراد به في الروايات هو الحب الغرائزي الفطري كحب الوالدين لأولادهما والطفل لأمه وهكذا. وهذه فرضية بعيدة جدا وذلك لأن مثل هذا الحب ينشأ من علاقة خاصة جدا يكون الرابط التكويني أو الغرائزي هو الدافع لها وحب الحسين عليه السلام لا يكون دافعه مثل ذلك ثم أن المطلوب من حب الحسين عليه السلام هي مرتبة أعلى وأكبر من ذلك فلو أن للفرد عدة أبناء وفضل بينهم في الحب فأحب الأول لدخالة صفات خاصة فيه على الثاني فإن ذلك لا يخرج الثاني من الحب الفطري الغرائزي، وهل من المعقول أن نتصور أن يكون حب الحسين عليه السلام كحب أبنائنا بحيث لو أننا فضلنا أحد أبنائنا عليه في الحب لكان مقبولا،بلا إشكال أن مثل هذا الحب ليس هو المطلوب.

الفرضية الثالثة: أن المراد من إيجاد علاقة الحب بيننا وبين الحسين عليه السلام هي تلك العلاقة الناشئة من العلاقات العامة فكلما كان المرء حسن السيرة جميل الخَلق والخُلق مكثرا للأعمال الصالحة فإن النفوس المؤمنة والقلوب النقية تنقاد إليه طوعا. ولكننا نقول أن هذه الفرضية أيضا غير صحيحة وذلك لأن تصريحات النبي صلى الله عليه وآله جاءت والحسين عليه السلام لا يزال صغيرا لم تتشكل هذه العلاقات المكونة عند الأمة لمثل هذا الحب الناشئة منها.

الفرضية الرابعة: أن نتصور أن المراد من الأمر بالحب باعتبار أن الحسين عليه السلام ابنا لرسول الله صلى الله عليه وآله والمرء يحفظ في ولده وهو صلى الله عليه وآله قال " هما ريحانتاي ". وهذه الفرضية أيضا ليست تامة وذلك لأن هناك من الأنبياء قد ولد لهم أولاد سوء كالنبي نوح ولسنا مأمورين بحب أولادهم فعلاقة الأبوة والبنوة لا تفرض حبا على الآخرين مهما كان هؤلاء الآباء أو الأبناء ولذا قال الله تعالى لنوح عليه السلام {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}هود46 ولا نتصور أن هناك ميزة زائدة لرسول الله صلى الله عليه وآله من هذه الناحية على الأنبياء السابقين.

الفرضية الخامسة: أن يكون منشأ الحب المراد هو وجود خصوصية في الإمام الحسين عليه السلام على سائر الناس والخلق وهي خصوصية الإمامة، وهذه هي الفرضية الصحيحة باعتبار أن الحب المطلوب حبا على نحو الاعتقاد بإمامته وبهذا لا يمكن تصور الانفكاك بين من يعتقد بإمامته وبين حبه وهذا أمر في غاية البداهة وذلك لأن الارتباط بين الاعتقاد والحب للمعتقد غير منفكين فكل من يعتقد بشيء يحبه ولذا فإن النبي صلى الله عليه وآله بأمره للأمة بحب الحسين عليه السلام هو يأمرهم بالاعتقاد بإمامته وهذا الحب يكون منسجما مع حب الله سبحانه وتعالى وفي طوله فكأنما الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله يقول يا رب أحب من يحب الحسين معتقدا بإمامته نظرا وعملا وهو حب يكون ذو مرتبة علية جدا بحيث كل شيء دونه رخيص، وهذا الحب الذي يكون منشأه الإمامة والعصمة في الذات ليس خاص بالحسين بل لكل مطهر مصطفى من الناس فكل الأنبياء والرسل والأوصياء والأئمة من هذه الجهة يجب حبه على نحو الاعتقاد كما في قوله تعالى {قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }البقرة136 وقوله تعالى {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }البقرة285 .

بيان نظرية الحب من جهة أخرى:

أن الحب المشار إليه في الروايات حب دائمي في كل الحالات وليس في حالة دون حالة، وهذا الحب الدائمي إما أن يكون لذات الحسين عليه السلام بقطع النظر عن مظاهر الذات وأفعالها الصادرة عنها وإما أن يكون بلحاظ الذات وما تتمظهر به وما يصدر عنها.
فإن قلنا أن الحب الدائمي هو للذات بقطع النظر عن أفعالها الصادرة عنها فهو حب لذاته الإنسانية فيه حتى لو صدرت منها أخطاء فهذا أمر غير معقول لأن الأفعال الصادرة من الذات هي المظاهر الكاشفة عن حقيقة الذات فإذا صدر منها الحرام والعياذ بالله كانت النفس نفسا شيطانية لأنها بعدت عن ساحة الله عز وجل وإذا صدرت منها الأفعال المقربة لله كانت نفسا ملكوتية، ومن المستحيل أن نأمر بحب النفس عند تلبسها بالشيطنة فقد ورد عنه صلى الله عليه وآله في صحيح مسلم ""لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن "" فليس من المعقول أن نؤمر بحب الحسين عليه السلام بشكل دائمي وهي نفس قد تصدر منها المعصية معاذ الله فيبقى أن نقول أن حبنا للحسين عليه السلام دائمي باعتبار أن ذاته مقدسة طاهرة لا يصدر منها إلا ما هو مقرب لله سبحانه وتعالى ولا يصدر منها المعصية أبدا.

النقطة الثانية: الحب التطبيقي:

على المستوى التطبيقي فإن الحب الكامن في النفس إذا كان ذو بعد عقائدي فإن التسليم والطاعة المطلقة للمحبوب هي النتيجة الحتمية وأن كل نفس ومال دون النفس المعصومة هين ورخيص وهذا ما يمكن لحاظه في معتقد أهل البيت عليهم السلام فهم يعتقدون بعدم جواز التقدم عليهم أو التأخر عنهم فقد ورد عن زين العابدين عليه السلام في دعاء في كل يوم من شعبان "المتقدم لهم مارق والمتأخر عنهم زاهق واللازم لاحق" فمن تقدم عليهم سهمه خائب مارق لا يصيب الهدف ومن تأخر عنهم يكون زاهق هالك أما الملازم لهم فهو لا حق بركبهم في سفينة النجاة.

أما من يفسر الحب على أي مستو نظري بما ذكر سابقا فإنه لا يرى العصمة في أشخاصهم وأن ميزان الترجيح لهم ولغيرهم يكون على مستوى وقوع العمل في الخارج على حسب موازينهم الاعتقادية والشرعية فالحب بهذا المعنى شيء والطاعة والانقياد المطلق لهم شيء آخر ولذا صحح البعض منهم جواز قتل الإمام الحسين باعتباره خارجا عن سلطان الزمان خصوصا على البناء بأنه لا يجوز الخروج على السلطان ولو كان جائرا أو أخذا السلطان الحكم بالقهر والغلبة وهذا المبرر يرفع الإثم حسب هذا النظر عن كل الصحابة والتابعين الذين سمعوا مقالة الحسين وهو يطلب الخروج للإصلاح بل ويبرر حتى لقتلة الحسين عليه السلام فهم قلوبهم معه وسيوفهم عليه كما وصف الفرزدق.

وعلى كل حال فمهما كان من أمر إلا أنه لا ينبغي التشكيك في حب الآخرين للإمام الحسين عليه السلام وصدق نوايا الأكثر من أصحاب المذاهب والملل ولو كان الأمر مورد نقاش وأخذ وعطاء وعلينا فتح الباب لذلك فإن بحبهم يمكن أن تصل الأمة شيعة وسنة إلى ملتقى توحد صفوفهم وتبعد عنهم الفتن.

والحمد لله رب العالمين.
مالك محمد علي درويش
غرة شعبان 1430 هـ
الموافق 24-7-2009م

الجمعة، 24 يوليو 2009

خصائص العامل في العمل الإسلامي الناجح

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.


قال تعالى ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾(التوبة:105)

المقدمة:
لكل عمل حتى يكتب له النجاح لا بد من أن له من أسس يبتني عليها تكون هي مقومات نجاحه وأي خلل في هذه المقومات تستدعي هبوط مستوى العمل وإذا لم يتدارك هذا الخلل في الوقت المناسب لربما كان بداية انهياره إن لم ينهار بالفعل.
ومما يؤسف له أن المعنيين على مثل هذه الأعمال يتجاهلون الخلل وهو أمام أعينهم إما من باب التكاسل والفترة أو الخوف من النقد أو لأمر آخر. هذا مع ملاحظة أن العمل الإسلامي سواء كان صغيرا أو كبيرا فهو خادم للشريحة الأكبر في المجتمع إن لم يكن المجتمع كله، ولهذا تكون أعين المجتمع متوجهة إليه بالرغبة تارة وبالنقد تارة أخرى، وهي تشكل ضغطا كبيرا على العاملين في هذا المجال، فالعامل يعيش حالة التفكير في كيفية إرضاء المجتمع وتقبله لهذا العمل وبين الخشية من الفشل أو النقد.
ولكن عندما يتجاوز أعين الخلق فإن العامل في الحقل الإسلامي لا يستطيع أن يتجاوز عين الخالق عز وجل وعين رسوله (ص) وأعين المؤمنين وهم أهل البيت عليهم السلام. فهم لا ينظرون لظاهر العمل وهيئته وكيفية سيره في المجتمع فحسب وإنما ينظرون لباطن العمل ومحتواه. وهذه أعظم عقبة يجتازها العامل في سبيل الله، فما أكثر الأعمال الجبارة والضخمة تنظر لها أعين الناس بالرضا والأيادي بالتصفيق والألسن بالتمجيد والتبجيل وهي لا تساوي شيئا عند الله ورسوله والمؤمنين.
وهناك من الأعمال الصغيرة التي ينظر لها المجتمع بعين التحقير والتصغير وهي عند الله من أعظم الأعمال وأفضلها. وهذا مقياس يصعب فيه التحكيم من قبل الناس وإنما التحكيم لله ولرسوله وللمؤمنين يوم يقوم الحساب.
وعصب العمل الإسلامي هو العامل سواء كان فردا أم فريقا مؤسساتيا وهو محور كلامنا لأنه الركيزة الأهم في نجاح أي عمل، ولكن لا يعني أن نوع العمل ومكانه وزمانه والمحيط الذي يقوم فيه ركائز أخرى وهي مهمة ولكنها في الواقع ركائز تقع في طول الركيزة الأولى الأهم.

مقومات نجاح العامل

1. المعرفة:

عندما نتكلم عن العمل الإسلامي فلا يمكن قياسه بالأعمال الأخرى، وذلك لأنك تتكلم عن تشكيل رسول للإسلام في المجتمع ينقل الرسالة المحمدية لأفراده وهذا معناه أنك تريد مقاييس خاصة للشخصية الرسالية التي تتحمل أعباء الرسالة تكون ملمة بالمعرفة الإسلامية المتناسبة للعمل الإسلامي صغيرا كان أو كبيرا وفي الوقت نفسه ملما بالمعرفة المجتمعية المحيطة به.
فإذا كان العمل الإسلامي غير خارج عن دائرة الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر إذ المعروف دائرة واسعة تدخل فيها كل ما يقرب لله عز وجل والمنكر دائرة واسعة يدخل فيها كل ما يبعد من الله عز وجل فعلينا إذا أن لا نغفل عن قوله تعالى ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران: من الآية110) لأن الخير هو النتيجة المطلوبة عند الله عز وجل وهو مقياس نجاح العمل.
أما الناس فهم المجتمع المطلوب معرفته أيضا لأن لكل مجتمع خصائص تختلف عن المجتمعات الأخرى ولا يمكن توحيد أساليب الدعوة لكل المجتمعات فالمجتمع البدوي والمجتمع الجاهلي يختلف مع المجتمع المدني والحضري فلكل أسلوبه في تقبل الدعوة
أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهي لا تتم إلا بالمعرفة بالدين بأصوله وأحكامه وأخلاقة فالذي تنقصه المعرفة العقائدية فلا يمكنه دعوة الناس إلى العقائد الحقة والذي تنقصه المعرفة المتعلقة بأحكام الله عز وجل لربما وقع في المحظور من دون أن يعلم فيكون رسول ضلال بدل رسول هداية.
أما الأخلاق فيكفيك قوله تعالى﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ (آل عمران: من الآية159)
إذا هناك معرفتان:الأولى: المعرفة بالدين والثانية: المعرفة بالمجتمع
وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله العمل بالعلم من تمام النعمة

2. الإخلاص:

في هذا المقوم فلتكن الرواية التي وردت في الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) هي المنطلق للتقييم فقد ورد عنه عليه السلام في قول الله عز وجل ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾(هود: من الآية7) قال : ليس يعني أكثر عملا ولكن أصوبكم عملا وإنما الإصابة خشية الله والنية الصادقة والحسنة ثم قال : الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل ، والعمل الخالص : الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عز وجل والنية أفضل من العمل، ألا وإن النية هي العمل ، ثم تلا قوله عز وجل ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾ (الإسراء:84) يعني على نيته.
ففي الرواية يقوم الإخلاص التام على أمرين:
الأول: هو الإصابة بمعنى الخشية لله والنية الصادقة والحسنة
الثانية: وهو عدم انتظار حمد الآخرين لك على أي عمل.
هذان الأمران سوف يخرج الأنا الشخصي والمؤسساتي عند القيام بأي عمل فالعمل الإسلامي يستعمل الوسائل الشرعية المختلفة للوصول إلى غايته المنشودة. فعندما تقول (الأنا) بأن العمل لا يخرج إلا عن طريقها فهذا معناه أنها تتحول إلى غاية العمل الإسلامي وليست إلى وسيلة. وبعبارة أخرى تكون الأنا محور العمل الإسلامي، فتنتظر المدح والإطراء كنوع بقاء لها وبالتالي يبقى العمل الإسلامي كما تعتقد (الأنا).
وهذا معنا احتكار العمل الإسلامي في فرد دون فرد وفي فئة دون فئة وفي مؤسسة دون أخرى مما يلغي جوّ المنافسة الخالصة لله وبذلك يبطل قوله تعالى ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾(المطففين: من الآية26)

3. الإتقان:

إذا كنا نقول أن على العامل أن يتحلى بالصبر والثبات والمثابرة على العمل فإننا لن نتردد في القول بأن لا تضيع وقتك وسني عمرك في عمل غير متقن فالله عز وجل خلق الخلق بإتقان إذا قال سبحانه ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (النمل: من الآية88)
فعلى العبد أن ينظر فيما يعمل بحيث يؤدي ما يعمله بإتقان تام وهذا يستدعي أن ينظر العامل إلى سعة قدرته فلا يحملها ما لا تقدر عليه فعمل صغير متقن خير من عمل كبير لا إتقان فيه بغض النظر عن كون العامل فردا أم مؤسسة خصوصا ونحن نتكلم عن العمل الإسلامي إذ هو بحر واسع لا يستطيع عليه كل أحد فمن أراد أن يغرف منه ليعطي غيره فلن يغرف منه إلا بقدر إناءه.

4. التوفيق:

يعتقد البعض أن كل عمل لا بد وأن يصيب الهدف كما هو يريد العامل. وهذا خطأ إذ العمل الإسلامي تحمله جناحا التوفيق، وهذا ما يوجب التسليم لأمر الله فحسب دون النظر إلى المخلوقين فالعامل الإسلامي لا يستطيع أن يكره الناس على ما يريده ولكنه لا يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أينما كان فهو يسعى كل السعي وينتظر التوفيق من الله. ولنا في رسول الله أسوة حسنة إذ يخاطبه الجليل الأعلى ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ (القصص:56)
وعليه فإن المجتمع يتحمل في مثل هذه الحالة عدم تقبل العمل إذا كان العمل من العامل على أحسن وجه ولا يعتبر هنا أن العمل قد فشل أو أن العامل قد بدر منه القصور بل أن العامل هو في أعلى مراتب النجاح لأن عمله كان بمنظار أخروي محظ وأنما المجتمع قد فشل في اغتنام العمل.

5. المحاسبة والمراجعة:

مما ورد عن رسول الله (ص) قوله: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا وتجهزوا للعرض الأكبر.
من مقومات النجاح وضع الأمور على الميزان فبالميزان يمتاز العمل الناجح من العمل الفاشل ومن لا يمتلك الميزان فهو لا يدري عمله أفي شرق هو أم في غرب في الأعلى أم الأسفل وللأسف الشديد فإن الكثير من الأعمال ذات التوجه الإسلامي ينقصها هذا الميزان.
يحتاج العامل الإسلامي على تقويم عمله بين فترة وأخرى كي يصحح مساره في العمل ومن لا يمتلك النقد الذاتي يصعب عليه تحمل النقد الخارجي. ومما أعجبني في هذا المقام كلام لسيد المقاومة عندما قال - بما معناه - بعد الحرب الأخيرة حرب ال33 يوما وبعد الانتصار المظفر أننا راجعنا كل الأخطاء وراجعنا كل المواقع واستبقنا العدو في ذلك لنحصن أنفسنا أكثر في المرة القادمة مع أنا الناظر المراقب لا يعثر على هذه الأخطاء، ولكن للمحاسبة والمراجعة الذاتية نفوسها الخاصة الكبيرة والتي تستطيع أن تتخطى كل العقبات لكي تصل إلى هدفها المنشود قبل أن تكون فريسة لهذا أو ذاك.

و الحمد لله رب العالمين
مالك محمد علي درويش
غرة شهر رمضان المبارك 1429هـ
الموافق 2 سبتمبر 2008


الأربعاء، 22 يوليو 2009

مقاربة بين موقف الحسين وموقف أبيه وأخيه عليهم السلام

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على محمد وآله الطاهرين

مما قد يرتكز في بعض الأذهان سؤال عن عدم قبول الحسين لمبايعة يزيد لعنه الله مع أن أبوه أمير المؤمنين عليه السلام قد بايع ثلاث سلطات متتالية وهو لا يعتقد بشرعيتها، وفي الوقت نفسه صالح أخوه الحسن عليه السلام معاوية ردءا للقتل عن نفسه وأصحابه مع أنه لا يؤمن بشرعية معاوية.

فلماذا لا يبايع الحسين عليه السلام يزيدا عليه اللعنة كما بايع أبوه وأخوه عليهما السلام؟


قبل الجواب على ذلك علينا النظر في الفوارق بين مبايعة أمير المؤمنين ومصالحة الحسن عليهما السلام وبين البيعة ليزيد عليه لعنة الله.
ففي بيعة الإمام علي عليه السلام كانت هناك بعض الظروف الموضوعية التي من شأنها جبر الإمام عليه السلام على وضع يده مكرها في يد أبي بكر منها:

1. أن الذين آمنوا بأحقية أمير المؤمنين في الخلافة من غير أهل بيته بحيث يكونوا ناصريه على خصومه لا يتجاوز في لسان بعض الروايات أصابع اليد وتعريض هذه الثلة للفناء المؤكد هو إفناء لفكرة الخلافة المعصومة أصلا من حياة المسلمين وهو ناقض للغرض.

2. أن الإسلام غضا طريا لما يتأكد في قلوب الكثير من المسلمين بحيث قيام أي حرب داخلية معناه خروج الكثير ممن دخلوا الإسلام منه، بل الكثير منهم لم يتعرفوا على حقيقة الإسلام إذ كان العهد بهم قريب مما يعني أن حقيقة الإمامة والاستخلاف الإلهي لها لما يتأكد في قلوبهم، ناهيك على أن هناك من اعتبر النبوة ملك كأي ملك دنيوي ولذا إدارة حرب كهذه مع الخلفاء لن تفهم أبدا على أنها إرجاع الحق لأهله بل سيفهم الكثير من المسلمين على أنه منازعة على سلطان كما كان بين المسلمين في دار السقيفة عندما تنازعوا على أمر الخلافة وقد أشار أمير المؤمنين لذلك بقوله في بعض خطبه عندما خاطبه العباس و أبو سفيان ابن حرب في أن يبايعا له بالخلافة فقال: فإن أقل يقولوا : حرص على الملك ، و إن أسكت يقولوا : جزع من الموت هيهات بعد اللّتيّا والّتي واللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطّفل بثدي أمّه ، بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطّويّ البعيدة1
3. أن قيام حرب داخلية معناه استضعاف للمسلين للجبهات الخارجية التي كانت تتحين الفرصة للانقضاض على المسلمين وحرب كهذه بالتأكيد سوف تضعف صلابتهم مما يجعلهم طعمة سائغة للطامعين وبالتالي ينتقض الغرض الذي من شأنه بعثت الرسالة وهو نشر الإسلام على آفاق الأرض.

4. أن نشؤ حرب يديرها أمير المؤمنين عليه السلام يكون الغرض منها هو إلزام المسلمين على الإمامة بالإكراه ومن المعلوم أنه بعد بيان تمام الحجة من قبل النبي على المسلمين تكون التولي لأهل البيت اختيارية بمعناه القلبي والعملي، وتحقيق هذا الأمر لا يكون تحت صهيل الخيل وقعقعة اللجم، وعليه فإيصال المسلمين للحالة الاختيارية تحتاج إلى ممارسة مدروسة تنشئ في نفوس المسلمين حاجتهم إلى الإمام المعصوم، وهذا ما حدث فعلا عندما اصطك الناس على بيعة أمير المؤمنين عليه السلام بعد مقتل عثمان، فهيأ الأرضية المناسبة لدخول فكرة الخلافة المعصومة في الذهنية المسلمة، ويشهد بذلك قبوله الدخول في شورى الحكم التي وصى بها عمرا لانتخاب خليفة المسلمين بعده ففي شرح نهج البلاغة للقطب الراوندي: أن عمر لمَا قال كونوا مع الثلاثة التي عبد الرحمن فيها، قال ابن عباس لعلي عليه السلام: ذهب الأمر منا، الرجل يريد أن يكون الأمر في عثمان. فقال علي عليه السلام: وأنا أعلم ذلك، ولكني أدخل معهم في الشورى لأن عمر قد أهلني للخلافة، وكان قبل ذلك يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن النبوة والإمامة لا يجتمعان في بيت، فأنا أدخل في ذلك لأظهر للناس مناقضة فعله لروايته2 ، وبهذا فتح آفاق الفكر الإنساني على ما لم يكن موجودا في من سبقه بالخلافة مما أوضح بلا شك ولا ريب على القدرة العلمية الفائقة التي غابت عنهم بعد انتقال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله للرفيق الأعلى وهذا مما يذكره عليه السلام في الكثير من خطبه نذكر بعض مواضع الشاهد منها، ففي خطبته المعروفة بالشقشقية قال: "أما و اللّه لقد تقمّصها فلان و إنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحا. ينحدر عنّي السّيل، ولا يرقى إليّ الطّير"3 وفي نفس الخطبة قال: "فيا لله وللشّورى متى اعتراض الرّيب فيّ مع الأوّل منهم ، حتّى صرت أقرن إلى هذه النّظائر" فعبارة ينحدر عني السيل ولا يرقى إليّ الطير واضحة المعنى على سعة علمه وحنكته وحكمته ولذا استنكر في موضع آخر من الخطبة إقرانه بما هم دونه بكثير في الفضل والعلم والحكمة.
وفي خطبة له أخرى بعد أن بايع المسلمون أبا بكر قال: بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطّويّ البعيدة4 .

لهذه الأسباب وغيرها بايع علي ابن أبي طالب عليه السلام من هو دونه علما ومعرفة بأمور الدنيا والدين.



وأما الإمام الحسن عليه السلام فصالح كذلك لأسباب موضوعية اقتضت التنازل عن الحاكمية الدنيوية على رقاب المسلمين لمعاوية نذكر من جملتها:

1. أن مبايعة الناس للحسن عليه السلام ما كانت البيعة المبتنية على أساس أنه إمام معصوم منصوص من قبل الرسول الأكرم بل ابتنت على أنها خلافة للمسلمين كما هي حالها في الخليفة الأول والثاني والثالث بل وحتى لما اجتمع الناس على أمير المؤمنين كانوا يطلبون الخلافة التي لا تزال خالدة في أذهانهم من تولية من قبله ولذا رفضها في بادي الأمر وقال لهم دعوني والتمسوا غيري ولكن إصرارهم وتراصهم على باب أمير المؤمنين عليه السلام دفعه على قبولها وقد أشار بذلك في خطبته الشقشقية قائلا: " فما راعني إلا و الناس كعرف الضبع إلي، ينثالون علي من كل جانب، حتى لقد وطى‏ء الحسنان و شق عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم .
بعد أن اشترط عليهم بأن يعمل فيهم ما يراه هو عليه السلام فقد قال لهم: " واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب"، وقد وافقوا على ذلك لكن مع هذا كما يقول في أواخر عمره الشريف عليه السلام في شقشقيته: فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ومرقت أخرى و فسق آخرون ، كأنهم لم يسمعوا اللّه تعالى يقول تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض و لا فسادا و العاقبة للمتقين. بلى و اللّه لقد سمعوها و وعوها، و لكنهم حليت الدنيا في أعينهم، و راقهم زبرجها.
على هكذا بويع الحسن عليه السلام كما بويع أبوه من قبل فصار الناس عندهم بيعة الحسن قابلة للمساومة والتنازل عنها لأنها لا تعبر أكثر من دور قيادي لأمور الدنيا ومتطلباتها فيجرون مشتهياتهم وغاياتهم فيها ولهذا مالوا إلى جانب معاوية لما منّاهم بالمناصب والأموال " وعمرت سوق الرشوات، وجاء في قائمة وعوده التي جلب بها ألباب كثير من الزعماء أو المتزعمين: رئاسة جيش، وولاية قطر، ومصاهرة على أميرة أموية !!.. وجاء في أرقام رشواته النقدية ألف ألف [مليون]!.
واستعمل في سبيل هذه الفكرة كل قواه وكل مواهبه وكل تجاربه، واستجاب له كثير من باعة الضمائر الذين كانوا لا يفارقون الحسن ظاهراً فإذا هم عيون معاوية التي ترى، وأصابعه التي تعمل، وعملاؤه الذين لا يدخرون وسعاً في ترويج أهدافه5" .

2. اعتقاد الناس في معاوية بأنه من أصحاب رسول الله وله المكانة السامية عنده بل أن بعض الناس كأهل الشام لم ينفتحوا على الإسلام إلا عن طريق الأمويين "فقد بعث أبو بكر يزيد بن أبي سفيان فقال له وهو مشيع له:إذا قدمت إلى أهل عملك فعدهم الخير... "6 ، وقد كان من سيرة معاوية التظاهر بالتدين وقد اشترى الرواة ليختلقوا له الروايات فقد قرب كعب الأحبار اليهودي الأصل " وقد عرف من تاريخ هذا الكاهن أنه تحول إلى الشام من عهد عثمان وعاش تحت كنف معاوية فاستصفاه لنفسه وجعله من خلصائه لكي يروي من أكاذيبه وإسرائيلياته ما شاء أن يروي في قصصه لتأييده، وتثبيت قوائم دولته"7 . "ولم يكن ما قدم أبو هريرة لمعاوية جهادا بسيف أو بماله، وإنما كان جهاده أحاديث ينشرها بين المسلمين يخذل بها أنصار علي ويطعن فيها عليه، ويجعل الناس يبرؤون منه، ويشيد بفضل معاوية ودولته. وقد كان مما رواه أحاديث في فضل عثمان ومعاوية وغيرهما مما يمت بأواصر القربى إلى أبي العاص وسائر بني أمية"8 وقد استعمل الدهاء والمكر والتمويه على المسلمين حتى أنه لما خرج لمحاربة الإمام علي عليه السلام حمل معه شعار المطالبة بدم عثمان. ولذا كان صلح الحسن عليه السلام مقدمة لفضح الملك الأموي وبيان حقيقة معاوية المتسترة بستار الدين والإسلام بعد أن أيقن عليه السلام أنه لا يمكن هزيمة جيش معاوية بمن معه من المتخاذلين والمنقسمين على أنفسهم ولذا وضع للصلح شروطا كان الإمام عليه السلام عارفا بان معاوية لا يفي بها " وتلك هي «الفذلكة» التي أجاد الحسن استغلالها كأحسن ما تكون الإجادة، واستغفل بها معاوية أشد ما يكون في موقفه من الحسن يقَظةً ونشاطاً وانتباهاً. انه لبى طلب معاوية للصلح، ولكنه لم يلبه إلا ليركسه في شروط لا يسع رجلاً كمعاوية إلا أن يجهر في غده القريب بنقضها شرطاً شرطاً. ثم لا يسع الناس - إذا هو فعل ذلك - إلا أن يجاهروه السخط والإنكار، فإذا بالصلح نواة السخط الممتد مع الأجيال، وإذا بهذا السخط نواة الثورات التي تعاونت على تصفية السيطرة الاغتصابية في التاريخ. وليكن هذا هو التصميم السياسي الذي نزل الحسن من طريقه إلى قبول الصلح، ولتكن هذه هي الفذلكة التي استغفل بها معاوية فكانت من أبرز معاني العبقرية المظلومة في الإمام المظلوم9 .

3. أن عدم صلح معاوية معناه فناء الشيعة كما يتضح ذلك من بعض المرويات فقد قال عليه السلام لأبي سعيد عقيصا: ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلا قتل وفي رواية أخرى عن أبي جعفر عليه السلام يقول لسدير بعد سؤاله عن صلح الحسن مستنكرا: اسكت فانه أعلم بما صنع، لولا ما صنع لكان أمر عظيم11 .

4. الحسن عليه السلام بصلحه لمعاوية فوت عليه إضفاء الشرعية على منصبه لأمور المسلمين وهو بخلاف لو تبارزا معا وانتصر معاوية حسب النواميس الطبيعية للدارسين لظروف المعركة، ففي الصلح استطاع الحسن أن يفرض شروطه أو يمليها عليه في عقد الصلح بحيث سلبت من معاوية مسمى أمير المؤمنين بل واستطاع الحسن عليه السلام التنصل من مبايعته، ولو كان الأمر غير ذلك كانتصار معاوية عسكريا فإنه لن يبقى أمام الحسن إلا أمرين إما أن يفني كل شيعة أمير المؤمنين عليه السلام بما فيهم نفسه أو أن يستسلم فيملي معاوية عليه شروطا ويفرضها بما يؤدي إلى شرعية حكومته ودون أن يحقق الحسن عليه السلام أي مكاسب للأمة الإسلامية تذكر، وهذا الأمر فيه وجه الحكمة فعن أبي سعيد عقيصا قال: قلت للحسن بن علي ابن أبي طالب (عليهما السلام): يا ابن رسول الله لم داهنت معاوية وصالحته، وقد علمت أن الحق لك دونه وأن معاوية ضال باغ؟

فقال: يابا سعيد ألست حجة الله تعالى ذكره على خلقه، وإماما عليهم بعد أبي (عليه السلام)؟ قلت: بلى، قال: ألست الذي قال رسول الله (صلى الله عليه واله) لي ولأخي: الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا؟ قلت: بلى، قال: فأنا إذن إمام لو قمت، وأنا إمام إذا قعدت، يابا سعيد علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول الله (صلى الله عليه واله) لبني ضمرة وبني أشجع، ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية، أولئك كفار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل، يابا سعيد إذا كنت إماما من قبل الله تعالى ذكره لم يجب أن يسفه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة، وإن كان وجهه الحكمة فيما أتيته ملتبسا.
ألا ترى الخضر (عليه السلام) لما خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار سخط موسى (عليه السلام) فعله، لاشتباه وجه الحكمة عليه حتى أخبره فرضي، هكذا أنا سخطتم علي بجهلكم بوجه الحكمة فيه، ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلا قتل12 .


عرض مبررات الإمام علي والإمام الحسن على الإمام الحسين عليهم السلام:

بعد عرض جملة الأسباب التي دعت الإمام علي عليه السلام يبايع أبا بكر والأسباب التي دعت الحسن يصالح معاوية سنقوم بعرضها على الإمام الحسين لنرى إن كان بالإمكان أن يكون هناك مبررا ولو واحدا منها يسوغ للحسين عليه السلام مبايعة يزيد لعنه الله.

المبرر الأول: ذكرنا أن الذين يؤمنون بأحقية الإمام علي عليه السلام لا يتجاوزون أصابع اليد بحيث يكون الدخول بهم في لهيب المواجهة هو إفناء لكل من يؤمن بأحقيته عليه السلام في الولاية، وهذا الأمر غير منطبق على الإمام الحسين عليه السلام إذ أن الذين يؤمنون بأحقيته قد توزعوا في مشارق الأرض ومغاربها بحيث يصعب على يزيد إفنائهم كلهم، وهذا الانتشار للموالين للإمامة المعصومة كان مخطط له تخطيطا محكما من قبل الإمام علي عليه السلام فهو في بداية العهد بعد وفاة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله استطاع أن يولد الإحساس عند المسلمين بالحاجة إليه في جميع ما يشكل عليهم من مسائل سواء دنيوية كانت أو دينية وهذا ما نلتمسه بكل صراحة في مقولات عمر بن الخطاب الشهيرة لولا علي لهلك عمر أو لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن علي، فعلي عليه السلام كانت تلك الشخصية الحاضرة في أذهان المسلمين لحل ما يشكل عليهم وبذلك بدأت نواة التشكل للمعتقدين بأحقيته للاستخلاف بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى ما إذا كان ما كان لعثمان تداك الناس عليه لقبول الخلافة وهو ما لم يحصل لأي خليفة من المسلمين لا بعده ولا قبله.

نعم الذين آمنوا بأحقيته للخلافة أكثرهم لم يكونوا يؤمنوا بخلافة الشرعية على نحو الجعل الإلهي له، ولكن مما لا ينكر أن أنصار الإمام علي الذين يؤمنون بأحقيته بالخلافة الإلهية قد كثروا عن ذي قبل، وقد استغل الحسن في تأصيل الخلافة أيما استغلال عندما صالح الحسن عليه السلام معاوية، فصار الموالون لأهل البيت كثر في كل مكان خصوصا وأن الإمام علي عليه السلام قد فرق شيعته ومواليه على أقطار الدولة الإسلامية بشكل جعلهم منار الهداية في تلك البقاع انتخب الإمام عليٌّ عليه السلام رجالاً من الذين أُبعدوا في عهد سابقيه دون أدنى سبب ، جعلهم مكان الولاة الذين ضجَّت الأُمَّة من سياستهم المنحرفة ، كالوليد بن أبي معيط ـ الذي سمَّاه القرآن فاسقاً ـ وعبد الله بن أبي سرح ، الذي انتفضت عليه مصر ، وعبد الله بن عامر ، ومعاوية الرجل المتجبِّر!
وأمَّا البدائل ، فهم : قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ، والأنصاريان الجليلان : سهل بن حنيف وعُثمان بن حنيف ، بدائل عن ابن أبي سرح وابن عامر ومعاوية ، على مصر والبصرة والشام. وجعل عبيد الله بن عبَّاس على اليمن ، وقثم بن عبَّاس على مكَّة13 . يقول عبد الزهراء عثمان محمد استعانة الإمام (عليه السلام) بجهاز من الولاة والموظفين لإدارة دفة الحياة الإسلامية يعدّ أفراده نموذجاً في مستواهم الروحي والفكري والالتزامي: كعثمان بن حنيف، ومحمد بن أبي بكر، ومالك الأشتر وسواهم.

على أن تلك النماذج الخيرة من الرجال، وإن كانوا في مستوى لائق في الفكر والعمل والقدرة الإدارية والقيادية، إلا أن الإمام (عليه السلام) قد زودهم بخط هادية ومناهج راشدة، يهتدون بها في حياتهم العملية، وفي علاقاتهم مع مختلف قطاعات الأمة التي يباشرون قيادتها14 .
ولذا نجد أن من نصح الإمام الحسين عليه السلام بعدم الذهاب للعراق كمحمد بن الحنفية قال له: فان خفت ذلك فصر إلى اليمن أو بعض نواحي البر ، فإنك أمنع الناس به ، ولا يقدر عليك أحد15 . لوجود جملة من الشيعة حسب ظن ابن الحنفية تكون مانعة من قتل الحسين عليه السلام إلا أنهم في الحقيقة وإن كانوا شيعة إلا أن المنعة لن تكون بالمستوى الذي سيحقن دم الحسين عليه السلام، ومثل الحسين هو أخبر بشيعته ومواليه إلى ذلك اليوم فلو كانت نواة دولة الحق تنطلق منهم لما وسعه عدم السعي نحوهم ولكن يظهر من عدم اللجوء إليهم هو عدم وصول أولئك الشيعة إلى المستوى المطلوب للقيام بالدور الرسالي المناط به عليه السلام، بل أن دمه الشريف ثبت ورسخ التشيع في نفوسهم.

المبرر الثاني: أن الإسلام في بعد وفاة النبي الأكرم غضا طريا والحرب الداخلية ستؤدي لخروج الكثيرين من دائرة الإسلام وستفهم الحرب على أنها حرب على ملك وأن الكثير لا يعلم بحقيقة الإسلام.
وهذا المبرر منتف في عهد الحسين عليه السلام لسنة 61 من الهجرة فهناك من تولد ونشاء في دار المسلمين أي أنه لم يعرفوا دينا سواه فلا يخاف على مثل هؤلاء الخروج من الدين ومن كان عهده قريبا أصبح عهده بالإسلام بعيدا حتى تأكد الإسلام منه بل أنه لا يجرأ أحد ممن أسلم إلى عهد الحسين أن يعلن عن جاهليته أو رغبته في الرجوع إلى الجاهلية، فحتى معاوية نفسه وهو من العتقاء أي أنه كان من أواخر اللذين دخلوا الإسلام على حياة النبي صلى الله عليه وآله كان يتظاهر بالحفاظ على الطقوس الدينية أمام الناس وأمام أهل الشام خاصة حتى أن المسعودي قال في ذكر جملة من أخلاقه وسياسته: " كان من أخلاق معاوية أنه كان يأذن في اليوم والليلة خمس مرات كان إذا صلى الفجر جلس للقاص حتى يفرغ من قصصه، ثم يدخل فيؤتى بمصحفه فيقرأ جزأه، ثم يدخل إلى منزله فيأمر وينهى، ثم يصلي أربع ركعات، ثم يخرج إلى مجلسه...إلى آخر كلامه16" .
نعم الذين دخلوا الدين متأخرين على عهد الخلفاء أو حتى في عصر معاوية فمثل هؤلاء لا يمكن التخوف على الإسلام من خروجهم لو فرض خصوصا بعد اتساع ارض المسلمين بل لا يمكن القول بخروجهم لأن عزة الإسلام أصبحت منيعة في نظر الآخرين وأصبح المسلم عزيزا به ويفتخر بإسلامه ولهذا لم يسمع بأن هناك أناس قد خرجوا من الدين بعد واقعة كربلاء، وهو على عكس ما قام به معاوية من مناهضة الإمام علي عيه السلام إذ خرجت بذرة الخوارج بتلاعبه بالمصاحف حين رفعه على رؤوس الرماح وابتلت الأمة الإسلامية منهم أي ابتلاء حتى أن أفكارهم بقت إلى يومنا هذه فيقولون بتكفير من ليس على شاكلتهم ووصفه بالشرك والكفر وأحلوا دماء حرمها الله بالإسلام.

وما يمكن أن يعلق في أذهان الآخرين على أن أمير المؤمنين لو حارب بعد وفاة الرسول الأكرم فهي منافسة على ملك لا تجري على الإمام الحسين، إذ أن استخلاف يزيد خرج عن الإطار الشرعي المقرون في أذهان الناس وأصبح بنظر الناس غاصبا للخلافة من أصحابها الحقيقيين إما لوجود البنود الصلح المتفق عليه بين الحسن عليه السلام ومعاوية وإما لكونه غير خليقا بها لكونه مجاهرا بالفسق وشرب الخمور ومولعا باللهو واللعب وهذا مما لم يعتده المسلمون ممن التمسوا الخلافة فجميعهم ظهر من حالهم أمام الناس أنهم يسيرون على هدي النبي صلى الله عليه وآله، وعليه لا تكون حرب الحسين ليزيد حربا على ملك بل حرب لإرجاع الخلافة لأهلها أو لبعث هدي النبي الأكرم في نفوس الناس ولذا قال عليه السلام " إني لم أخرج أشرا ولا بطرا وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنه عن المنكر"

المبرر الثالث: أن قيام حرب داخلية سيضعف الدولة الإسلامية من الداخل بحيث تكون مطمعا للأطماع الخارجية فهذا منتف بعد تغلب المسلمين على القوى الكبرى آنذاك وإضعافها ولذا لم يتوانى أمير المؤمنين عليه السلام في حرب معاوية ولم يخف من الأطماع الخارجية لأنها لا ترقى إلى منازلة المسلمين بعد أن جعلوا الفرس والروم يشكون الخوار والضعف على حرب المسلمين.

المبرر الرابع: أن عليا عليه السلام ما كان ليحارب كي تكون الولاية جبرية على المسلمين بعد أن ثبتت بالأدلة العقلية والشرعية فكانت كأي حكم من الأحكام التي لا تصح إلا بالاختيار والقصد بل أثبت أحقيته وأهليته لتولي الحكومة الشرعية بسكوته عن المطالبة بالحكم بعد أن أقصوه باختيارهم ، والحسين في خروجه لملاقاة المنية في كربلاء لم يقصد أن يجبر الناس على ولايته الشرعية بل هي ثابتة في قلوب المسلمين فقلوبهم كانت معه ولكن وسيوفهم عليه ولما كانت الدنيا هي مطمعهم والشيطان هو قائدهم فمال بهم على أن يختاروا مطامع الدنيا على مطامع الآخرة مع علمهم بأنهم يسلكون المسلك الخطأ، فقام الحسين عليه السلام بأبي وأمي طالبا للإصلاح وطلب الإصلاح يقتضي المدة الكافية للتغلغل في النفوس لكي يعدل الخط الذي اعوج ولذا قال عليه السلام: إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي. ولم يقل خرجت طالبا الحكم أو الملك.
وأي طالب للإصلاح لا يرجو أن ينال الثمار بمجرد قيامه للإصلاح بل يحتاج الإصلاح المدة الزمنية الكافية التي من شأنها أن تؤتي ثمارها على أكمل وجه، وهذا ما صنعه الحسين عليه السلام فلم يسقط الحسين حكومة يزيد أو دولة الأمويين بدمه مباشرة لكنه استطاع أن يقلع ما كان يصبو إليه الأمويين من إماتة دين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأبد واستطاع أن يثبت جذور شجرة الهداية التي غرسها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وقد أتت أكلها على مر الزمان والأجيال.

هذا بالإضافة إلى أن الحسين عليه السلام لم يبدأ الحرب بل أن يزيد لعنه الله لم يجعل مجالا لحياة الحسين عليه السلام إلا الذلة بمبايعته، ولذا كان الحسين في موقع الدفاع ليس عن شخصه ولكن على دين جده صلى الله عليه وآله وسلم الذي رآه الحسين عليه السلام يحتضر في أحضان بني أمية فصمم أن يسقيه بدم البقاء الأبدي من شفير العطش اليزيدي، راجعا به إلى أحضان التضحية والفداء الحسيني.

وبعد كل ما كان مبررا لعدم خوض الإمام علي عليه السلام حربا استشهادية لا يصلح أن يكون مبررا لرضوخ الحسين عليه السلام لمطالب يزيد عليه لعنة الله، فيبقى علينا أن ننظر في المبررات التي صاغت للحسن عليه السلام خط الصلح هل تصلح للحسين أن يعقد مثلها مع يزيد تخلصا من القتل.

المبرر الخامس: الإمام الحسن عليه السلام صالح لأن جيشه قد انقسم عليه وقبل الرشاوى والأماني بل وجبن بعض وعاداه بعض فقيمومته في الناس لا تكون وهي على هذا الحال، فحتى يبين لهم موضعه الحقيقي منها ويوعيهم سالم وصالح معاوية وهذا الأمر وإن كان له شبيه فإن أهل العراق راسلوا الحسين عليه السلام بعد استشهاد الحسن عليه السلام كما ينقل صاحب البحار: أقول: قال الشيخ المفيد في الإرشاد: روى الكلبي والمدائني وغيرهما من أصحاب السيرة قالوا: لما مات الحسن (عليه السلام) تحركت الشيعة بالعراق وكتبوا إلى الحسين (عليه السلام) في خلع معاوية والبيعة له، فامتنع عليهم، وذكر أن بينه وبين معاوية عهدا وعقدا لا يجوز له نقضه، حتى تمضي المدة، فإذا مات معاوية نظر في ذلك17 .

فالإجابة واضحة إذ نقض العهد الذي أبرم لا يمكن أن يكون من جانب الحسين عليه السلام فالشروط ما دامت باقية وأهم جزء فيها هو رجوع الخلافة للحسين بعد موت معاوية لا بد وأن يكون الحسين هو أولى من غيره بالحفاظ عليه وإلا لقيل أن الحسين طمع في الملك، ولذا صبر ولزم الصمت يترقب الأحداث، وبعد هلاك معاوية كثرت رسائل أهل الكوفة يبايعونه فيها ويحثونه على المجيء سريعا فإنه ليس عليهم إمام غيره، وبعد ذلك انقلب عليه أكثر أهل الكوفة بحيث خرجوا لقتاله، ولكن مع هذا هناك فارقان كبيران الأول: أن معاوية بن أبي سفيان نقض كل العهود المبرمة من جانبه عمليا إلا البند الذي ينص على تولي الخلافة من بعده للإمام الحسين عليه السلام وقد اطلع عليه المسلمون حتى أهل الشام وعليه لا يمكن وضع صلح آخر مع ابنه بعد أن كان يزيد لعنه الله هو طرف النقض العملي لهذا البند فأي صلح يقبل مع من علم أنه ناقض للعهد وهو بخلاف معاوية المجهول لنقضه للعهد قبل المصالحة مع الإمام الحسن عليه السلام إذ كانت تلك أول تجربة للمسلمين مع العهود الأموية. ثانيا: إن الإمام الحسين عليه السلام لم يكن في موضع السلطة الرسمية كالإمام الحسن عليه السلام ولم يكن بعد قد شكل جيشا لحماية الرسالة بل كل ما هناك أنه بعث رسوله الخاص مسلما يستطلع الحال منهم ويوثق ما راسلوه به ولذا لم تكن في رسالة الحسين لمسلم ما يوحي أنه مخول بتشكيل جيش أو التصرف بشكل القيادة العسكرية فلنقرأ رسالة الحسين لأهل الكوفة « قد نفذت إليكم ابن عمي مسلم ابن عقيل ليعرفني ما أنتم عليه من الرأي »18 ، فعند ذلك رد جواب كتبهم يمنيهم بالقبول و يعدهم بسرعة الوصول و أنه قد جاء ابن عمي مسلم بن عقيل ليعرفني ما أنتم عليه من رأي جميل19.

وذكر القرشي روايات مختلفة تحمل المعنى نفسه:
الأولى: رواها أبو حنيفة الدينوري وهذا نصها : " من الحسين بن علي إلى من بلغه كتابي هذا من أوليائه وشيعته بالكوفة، سلام عليكم، أما بعد : فقد أتتني كتبكم، وفهمت ما ذكرتم من محبتكم لقدومي عليكم وأنا باعث إليكم بأخي وابن عمي، وثقتي من أهلي مسلم بن عقيل ليعلم لي كنه أمركم، ويكتب إلي بما يتبين له من اجتماعكم فان كان أمركم على ما أتتني به كتبكم، وأخبرتني به رسلكم أسرعت القدوم إليكم إن شاء الله والسلام...
الثانية : رواها صفي الدين وقد جاء فيها بعد البسملة : " أما بعد فقد وصلتني كتبكم، وفهمت ما اقتضته آراؤكم، وقد بعثت إليكم ثقتي وابن عمي مسلم بن عقيل، وسأقدم عليكم وشيكا في أثره إن شاء الله...
وهذه الرواية شاذة إذ لم يذكر فيها مهمة مسلم في إيفاده إليهم من أخذ البيعة له، وغير ذلك مما هو من صميم الموضوع في إرسال مسلم .
الثالثة : رواها الطبري وقد جاء فيها بعد البسملة : " من الحسين بن علي إلى الملاء من المؤمنين والمسلمين أما بعد : فان هانئا وسعيدا قدما علي بكتبكم، وكانا آخر من قدم علي من رسلكم وقد فهمت كل الذي اقتصصتم، وذكرتم ومقالة جلكم، أنه ليس علينا إمام فاقبل لعل الله يجمعنا بك على الهدى والحق . وقد بعثت لكم أخي وابن عمي، وثقتي من أهل بيتي، وأمرته أن يكتب إلي بحالكم وأمركم ورأيكم، فان كتب أنه قد اجتمع رأي ملاكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت علي به رسلكم، وقرأت في كتبكم، أقدم عليكم وشيكا إن شاء الله، فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب والأخذ بالقسط والدائن بالحق، والحابس نفسه على ذات الله والسلام20...
فالنظر في كل ما روي عن فحوى رسالة الحسين على اختلاف ألفاظها لا يجد فيها أي مدلول على تشكيل جيش أو القيام بمهام الإمام بدلا عنه أو الجواز في خوض أي أمر من الأمور المتعلقة بالتصرف في الناس، وإنما أنيطت به مهمة واحدة وهي النظر عن قرب إلى حقيقة أمرهم فإن طابق حالهم كما جاءت به كتبهم قدم عليهم.

المبرر السادس: ما صنعه معاوية من الهالة القدسية له كصاحب من أصحاب رسول الله وما أضفى عليه من جلالة القدر بعدما استطاع جلب رواة اشتراهم بالأموال بل وما كان منه من تظاهر أمام الناس بالتدين واهتمامه بأمور المسلمين وجلبه للعلماء كان من شأن ذلك إيهام الكثيرين من المسلمين بأنه يطالب الحكم لا لنفسه بل لتطبيق الخلافة بين المسلمين فاستغل قميص عثمان كقضية محورية في حروبه ضد خلافة أمير المؤمنين وخلافة الحسن عليهما السلام، والصلح كشف للناس زيف ما يدعيه فسقط كل ما يدعيه، ولذا فإن ما كان مبررا للصلح للحسن عليه السلام من هذه الجهة لا يصلح أن يكون مبررا للإمام الحسين عليه السلام إذ يزيد كان مجاهرا بالفسق واللهو والقمار مما لا تسعفه المقولات الكاذبة لو أراد أن يثبت أحقيته للخلافة ولذا أعلنت الكوفة انقلابها على يزيد وتجاهرت بذلك وأصرت على قدوم الحسين عليه السلام لها بعد أن رأت أن القيد الذي منع الحسين عليه السلام من مواجهة معاوية من صلح قد انقطع.

إذا بعد عرض هذه المبررات لم يكن أمام الحسين عليه السلام إلا طريقا وحدا قد خط بالقلم الرباني هو سقيا شجرة الرسالة المحمدية بدمه الشريف الباقي ما بقي الدهر فيكون الدين شجرة غرست وارتوت من تراب كربلاء.
والحمد لله رب العالمين

مالك محمد علي درويش
27 ذو الحجة 1426 هـ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. الإمام علي عليه السلام، نهج البلاغة،خطبة 5
2. الري شهري، موسوعة الإمام علي عليه السلام،دار الحديث للطباعة، الطبعة الأولى 2000م، ج3 ص119
3. الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، نهج البلاغة، خطبة 3
4. نفس المصدر
5. صلح الإمام الحسن للسيد عبد الحسين شرف الدين ص248
6. مروج الذهب للمسعودي ط الثانية 1984،منشورات دار الهجرة، ج2 ص302
7. أضواء على السنة المحمدية لمحمود بن رية ص181
8. نفس المصدر ص214
9. صلح الإمام الحسن ص250
10. بحار الأنوار باب18 ح2 باب العلة التي من أجلها صالح الحسن
11. نفس المصدر ح1
12. نفس المصدر السابق
13. الإمام علي سيرة وتاريخ، مركز الرسالة ص 191
14. سيرة أمير المؤمنين لعبد الزهراء عثمان محمد
15. ابن طاووس، الملهوف على قتلى الطفوف، ص 128
16. مروج الذهب ومعادن الجوهر ج3 ص29
17. بحار الأنوار ج 37 ص 324
18. ابن طاووس، الملهوف، ص 108
19 مثير الأحزان ابن نما الحلي
20. محمد باقر شريف القرشي،حياة الإمام الحسين،مطبعة باقري، ط الرابعة 1992م، ج2 ص339

الأحد، 19 يوليو 2009

كيفية حساب اليوم الشرعي


اليوم الشرعي في الفقه تترتب عليه مجموعة من المسائل الشرعية المهمة جدا فمنها مثلا: إذا كنت مسافرا فما هو أقل ما يتحقق به الإقامة التي يجب معها الصلاة تامة من دون قصر ومتى يصح الصوم ومتى لا يصح في السفر؟ وهل يختلف في بداية حساب اليوم إذا نزلت في بلدة ما بالليل أو النهار؟ وهكذا للمرأة هل يختلف حساب أقل الحيض عندها على ابتداء خروج الدم ليلا أو نهارا؟ ومتى يقال لها أنه قد تجاوزت أكثر الحيض؟
وبعبارة أخرى أن في الفقه بعض المسائل تطرح هكذا: يصلي المسافر الصلاة الرباعية تماما إذا أقام عشرة أيام. أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة. وأقل الطهر للمرأة هو عشرة أيام.
فلو أن المسافر وصل إلى البلد الذي سيقيم فيه ليلا فمتى يحسب بداية اليوم ومتى تكون نهايته حتى يقال أنه قد أقام عشرة أيام؟ وماذا لو كان وصوله في النهار؟
ومتى يتحقق أقل الحيض وأكثره هل هناك فرق بين أن يكون بداية نزول الدم عليها في النهار أو الليل؟
مثل هذه الأسئلة تتحدد بمعرفة كيف يحسب اليوم في الفقه؟ ويترتب عليه مسائل تتعلق بصحة الصوم وعدمه ووجوب قضاءه وكذا بصحة الصلاة وعدمها وكذا بالقصر والتمام.
الظاهر أن المسألة أصبحت كبيرة ومتشعبة ولكن كل ذلك في التطبيقات الحساب الشرعي ولكن في طريقة الحساب إذا عرفناها سيسهل علينا التطبيقات المختلفة.
ولكن قبل بيان حساب اليوم الشرعي أريد ان أضع ملاحظة مهمة وهي: أن حساب اليوم يحقق شرطا من شروط الحكم للمسألة الفقهية أي أنه ومجموعة من الشروط إذا تحققت فإن الحكم يعتبر فعليا في حق المكلف وهذا ما يحتاج إلى توضيح اتركه بعد بيان كيفية حساب اليوم في المشاركات اللاحقة.

كيفية حساب اليوم الشرعي:
يختلف حساب اليوم الشرعي باختلاف مبدأ الحساب وباختلاف منتهى الحساب إلى ثلاثة طرق:

الطريق الأول: أن يكون ابتداء حساب اليوم من وسط النهار فيكون منتهاه هو اليوم التالي في نفس الوقت أي 24 ساعة وهذا ما يعبر عنه باليوم التلفيقي أي اننا نكمل حساب اليوم الذي وصلنا فيه ونلفق له بما نقص منه من اليوم التالي مثلا: المسافر يقدم إلى بلد ما الساعة الثامنة صباحا يوم السبت فإنه يكمل يومه الشرعي الساعة الثامنة صباحا من يوم الأحد.
وعليه فحتى يكمل عشرة أيام كاملة وهي أقل الإقامة الشرعية التي يجب عليه أن يتم الصلاة ولا يجوز له أن يقصر فيها فإنه يكملها يوم الثلاثاء من الأسبوع الذي يليه الساعة الثامنة.
وطريقة الحساب هذه متفقة بين الفقهاء حسب تتبعي

الطريق الثاني: أن يكون ابتداء الحساب من أول النهار فيكون منتهاه هو أخر النهار ولكن يحتاج المكلف أن يعرف رأي مرجع التقليد الذي يعتمد عليه فالمسألة خلافية في بداية النهار وفي نهايته فبعض الفقهاء يرون الابتداء للنهار هو أول الفجر الصادق أي عند أذان الصبح والبعض الآخر يرى الابتداء عند أول شروق الشمس، وهكذا الاختلاف في النهاية فبعض الفقهاء يرى نهاية النهار بسقوط قرص الشمس والبعض الآخر يرى أن نهاية النهار عند ذهاب الحمرة المشرقية.
على كل حال فسنعبر في المثال ببداية النهار ونهايته بغض النظر عن الاختلاف الفقهي فكل يرجع إلى فقيهه لتحديد ذلك.
فإذا دخل المسافر بلد ما يوم السبت أول النهار بما بيناه فإن يومه الشرعي ينتهي بنهاية ذلك اليوم وحتى يكمل عشرة أيام كاملة فإنها ستنتهي يوم الاثنين عند نهاية النهار أي عشرة نهارات وتسعة ليل بينها.

الطريق الثالث: وهو نفس الطريقة في الطريق الثاني ولكن بإلغاء الليلة الأولى والليلة الأخيرة فلو أن المسافر وصل منتصف الليل فإن هذه الليلة لا تدخل في الحساب بل تلغى ويبدأ الحساب من أول النهار وهكذا لو أراد الخروج في الليل فإن الليلة الأخيرة لا تحتسب وإنما يحسب أخر النهار السابق على تلك الليلة.

وهكذا عرفنا كيف نحسب اليوم الشرعي بداية ونهاية ولكم بعض التطبيقات كي يسهل الأمر أكثر:
1. الاعتكاف في المساجد.
وهو أن يصوم المكلف ثلاثة أيام معتكفا للعبادة في المسجد - وبغض النظر عن الاختلاف الفقهي في نوعية المسجد لصلوحيته للاعتكاف - فإن الاعتكاف يبدأ من بداية نهار اليوم الأول - من الفجر أو طلوع الشمس على الخلاف بين الفقهاء كما مر - وينتهي في نهاية نهار وهو الغروب اليوم الثالث - كذلك على الخلاف بين الفقهاء في تعيين الغروب بين سقوط القرص أو زوال الحمرة المشرقية - فيكون مدة الاعتكاف ثلاثة نهارات ويتوسطهن ليلتين.

2. المرابطة على الحدود
وهو أن يمكث المكلف على حدود الدول الإسلامية لكي يكون عينها الساهرة عليها الراصدة لتحرك الأعداء وأقل المرابطة ثلاثة أيام وأكثرها أربعون يوما فإن قلّت الأيام عن الثلاثة لم يسمى مرابطة ولا يحصل على ثواب المرابطة بل يحصل على ثواب الحراسة للحدود لليوم الواحد أو اليومين وإذا زاد عن الأربعين يوما دخل ثوابه في المجاهدين. فلو نذر المكلف المرابطة فإنه لا يفي بنذره إلا أن يرابط بما لا يقل عن ثلاثة أيام شرعية كما بينا في طريقة حسابها إذا بدأ أو النهار أو بدأ ليلا أو بدأ في وسط النهار.

3. من أهم التطبيقات لحساب اليوم الشرعي ومن أعقدها هو باب الدماء الثلاثة للمرأة ـ الحيض - الاستحاضة - النفاس
الحيض مثالا:
المشهور عند الفقهاء أن أقل الحيض هو ثلاثة أيام متتالية وأكثره هو عشرة أيام متتالية فإذا نقص الدم عن الثلاثة أيام ولو بساعة واحدة فإن ذلك لا يعتبر عند مشهور الفقهاء حيضا حتى ولو كان الدم في وقت العادة. وهكذا لو تجاوز الدم على العشرة أيام فإن الزائد على العشرة أيام لا يعتر حيضا ولو كان بصفات الحيض.
إلى هنا تبدو المسالة سهلة جدا بعدما اتضح لنا كيفية حساب اليوم الشرعي، ولكن لما كان الحيض مرتبط بمجموعة من الشرائط بالإضافة إلى اختلاف القواعد في تحديد نوعية الدم أولا تكون المسألة معقدة نوعا ما.
ولكن حتى يسهل الأمر أطرح مثالا واحد لرأيين فقهيين مختلقين المثال لو أن المرأة لها عادة عددية في كل شهر ترى الدم خمسة أيام فلو أنه رأت الدم في هذا الشهر تسعة أيام خمسة أيام منه بصفة الحيض وأربعة أيام بصفة الاستحاضة فما هو حكمها؟

الجواب على حسب المبنى الفقهي
السيد السيستاني مثلا: يقول أن كل الدم ما دام لم يتجاوز العشرة الأيام سواء كان بصفات الاستحاضة أو الحيض فهو في حكم الحيض.
السيد الخوئي: يقول الدم الذي هو بصفات الحيض ما دام تجاوز الثلاثة أيام هو حيض أما الدم الذي بصفات الاستحاضة فهو استحاضة.

وأطرح مثالا آخر
إذا كان عادة المرأة عددية فقط وهي خمسة أيام في كل شهر وفي هذا الشهر رأت الدم إثنى عشرة يوما متتالية ولكن ما كان منه بصفات الحيض هو يومان فقط وما كان بصفات الاستحاضة هو عشرة أيام فما هو حكمها؟
الجواب
السيد السيستاني: أنها ترجع إلى عدد عادتها وهي الخمسة أيام مع مراعاة أن يكون اليومان اللذان بصفات الحيض من ضمن الخمسة أيام وباقي الأيام السبعة هي استحاضة.
السيد الخوئي: فإنه يرى أن كل الدم الإثنى عشر يوما استحاضة لان الدم الذي هو بصفات الحيض اقل من ثلاثة أيام.

وهناك ملاحظة بسيطة للتأكيد فقط أن العادة هنا عددية فقط وليست وقتية وإلا لاختلف الأمر
هنا سنرى كيف يبدو الاختلاف بين قاعدتين الأولى هي قاعدة الإمكان والثانية هي قاعدة الصفات. ولكن لما شرح مثل هاتين القاعدتين يطول سأجعل لهما موضوعا مستقلا في هذا المنتدى إن شاء الله
وعلى كل حال فمرادي من وضع المثالين للتطبيق كي أنور الأخوة والأخوات أن اليوم الشرعي ليس لوحده حاسم للمسائل الشرعية بل أن هناك مجموعة مترابطة من القواعد والأحكام تكون وحدة واحدة لفهم المسائل الشرعية وهذا ما يمكن أن نعبر عنه أحيانا بمفاتيح فهم الفقه.

الجمعة، 17 يوليو 2009

بين الفكرة والحقيقة أين أكون؟

يرى البعض من أنه لا وجود للحقيقة المطلقة وإنما هناك ما يسمونه بالحقيقة النسبية وهي أمر قابل للتغير تارة وللتطور تارة أخرى وفي الطرف النقيض هناك من يرى أن الحقائق ثابتة دائما ولا تتبدل ولا تتغير ولذا فإن هذا الطرف متمسك بآرائه دائما ويرى الناس الذين على خلافه أنهم على خطأ لأنه ممسك بالحقيقة وباقي الناس ممسك بخيط الوهم، وهم بعكس الصنف الأول الذين يرون تعدد الحقيقة في الشيء الواحد.

باعتقادي لا الصنف الأول على صواب ولا الصنف الثاني فيما يراه من ترتب ونتيجة على معتقداته، ويمكن إرجاع ذلك إلى أن الصنف الأول لا يمكن القبول به عقلا وذلك لأننا نشعر بالوجدان أن هناك حقائق ثابتة كإيماني بنفسي وبوجودي ووجود ما حولي وهذا أمر ليس قابل للتبدل أو التغير هذا من جهة ومن جهة أخرى نجد أن النظرية تناقض نفسها بنفسها فإن هذه النظرية إما أن تكون ثابتة أو قابلة للتغير والتطور فإن كانت ثابتة فيثبت خلاف ما تدعيه من أن كل الحقائق ليس لها ثبوت، وإن كانت متغيرة ومتطورة فلا نتصور غير تطورها أو تغيرها للثبوت وبذلك تكذب نفسها. أما الصنف الثاني فهو وإن كان يثب أن الحقائق لها تقرر في نفس الأمر والواقع إلا أنه لا يمكن الوثوق بأن كل ما يراه هو المصيب للواقع فلربما ما كان يراه واقعا يكون في ظرف ما خطأ ونحن نرى بالوجدان أننا في فترة ما كنا نؤمن بأشياء على نحو أنها تكوينية وموجودة ثم يبان خطأها فكيف لنا أن نتمسك بجميع آرائنا ونقول أنه الحقيقة، أليس هذا قتل للعلم في مهده، ثم أنه كيف لنا أن نفسر تطور العلوم وتغير المفاهيم من عصر إلى عصر فإذا كان ذلك كله من باب الوهم فإن هذا يستدعي من عدم الثقة في ما نتوصل إليه من نتائج علمية اليوم فلربما تكون وهما في المستقبل.

إذا فما هو الصواب كي أعرف كيف أفكر؟

الأمر ليس بهذه الصعوبة فلو أنني رأيت شيء قادما من بعيد لم تتضح لي معالمه التفصيلية بعد فإني هنا سأعتقد بأن ذلك شيء وهذه حقيقة غير قابلة للتبدل أو التغير ولكن عندما أعمل تفكيري ومخزون معلوماتي الذهنية للتوصل عن كنه هذا الشيء وماهيته فهنا سأعمل ما يتوصل لي عقلي من حقيقته وكنهه فلربما أصيب الواقع وربما أخيب فهذا التردد بين الإصابة والخيبة هو مقدار المنكشف لي من حقيقة ذلك الشيء الثابتة في نفسها وكلما اقترب مني ذلك الشيء القادم صارت حالة الانكشاف لحقيقته وكنه أقوى من السابق فتارة ما بنيت عليه سابقا يقبل التطور باعتبار أن تقدم الشيء نحوي زادني اطلاعا على تفاصيل كانت غائبة سابقا وتارة أخرى يتغير هذا الاعتقاد إلى اعتقاد آخر لان ما اتضح لي من حقائقه التفصيلية لقربه مني أكثر كشف أن ما تبنيته سابقا كان خطأ.

بهذا التفسير للحقيقة يمكننا أن نفسر تطور العلوم والمفاهيم والمعتقدات وتبدلها في أحيان أخر، وبهكذا فهم للحقيقة وطريقة انكشافها نستطيع أن نفهم لماذا نتحاور فيما بيننا وكيف نرتقي بأنفسنا فكما أننا يمكن أن نجانب الحقيقة فيمكننا أن نتقاطع معها أيضا وهكذا عندما أنظر ما عندك فآخذ منك وتأخذ مني نصل لا محالة إلى لب الحقيقة بعقل منفتح وقلب محب.

الأربعاء، 15 يوليو 2009

أهلا وسهلا بكم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

لم أعتد على كتابة المدونات من قبل ولكن من أمد ليس بالقليل كانت تخامرني مواضيع متعددة وأفكار تأتي من هنا وهناك لكثرة قراءاتي المتعددة في الدين والسياسة والثقافة العامة فأحببت أن أعلق عليها مما يجول في خاطري، وربما لأني متدين حسب نشأتي وتربيتي ودراستي، ومنفتح ومتفهم حسب طبعي ومنهجي أحاول من خلال هذه المدونات أن أطرح ما أراه من أفق نفسي متوافقا مع ما اعتقد به سهلا على قارئيه فاتحا باب النقد عليه مساهما في نشر فكر ديني له سعة العالم مناقشا للتاريخ والعقيدة والسيرة والفقه لا يرى الدين حكرا على اناس ولا التكفير مبدأ للحياة والتعايش، بل ينظر للحياة أنها دار البناء وصناعة الانسان وطريقا للكمال.

اعتقد أن لكل انسان منهجه الخاص في الحياة كما أنه يعتقد ويؤمن وله الدفاع عن معتقده ومذهبه لكن ليس له الحق في نفي الآخرين، أرى أن التعايش والتعارف هو السبيل الوحيد لرقي الأمم والموصل به إلى مبتغاها وكمالها واضعا الآية الكريمة "
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ " الحجرات/13

ولهذا أرى ان أطرح ما أراه مناسبا من معتقد أو ثقافة أو تعليق أو حتى شرح لمطالب علمية اعتقادية كانت أو فقهية أو تاريخية أو ثقافية أو سياسية وغير ذلك وكلي أمل أن لا أكون مثقلا على من يقرأ مدوناتي راجيا أن يقبل عملي بأحسن القبول من بارئي ومصوري ومنكم أيها القرأء الأعزاء.

شاكرا لكم مروركم الكريم