بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على محمد وآله الطاهرين
مما قد يرتكز في بعض الأذهان سؤال عن عدم قبول الحسين لمبايعة يزيد لعنه الله مع أن أبوه أمير المؤمنين عليه السلام قد بايع ثلاث سلطات متتالية وهو لا يعتقد بشرعيتها، وفي الوقت نفسه صالح أخوه الحسن عليه السلام معاوية ردءا للقتل عن نفسه وأصحابه مع أنه لا يؤمن بشرعية معاوية.
فلماذا لا يبايع الحسين عليه السلام يزيدا عليه اللعنة كما بايع أبوه وأخوه عليهما السلام؟
قبل الجواب على ذلك علينا النظر في الفوارق بين مبايعة أمير المؤمنين ومصالحة الحسن عليهما السلام وبين البيعة ليزيد عليه لعنة الله.
ففي بيعة الإمام علي عليه السلام كانت هناك بعض الظروف الموضوعية التي من شأنها جبر الإمام عليه السلام على وضع يده مكرها في يد أبي بكر منها:
1. أن الذين آمنوا بأحقية أمير المؤمنين في الخلافة من غير أهل بيته بحيث يكونوا ناصريه على خصومه لا يتجاوز في لسان بعض الروايات أصابع اليد وتعريض هذه الثلة للفناء المؤكد هو إفناء لفكرة الخلافة المعصومة أصلا من حياة المسلمين وهو ناقض للغرض.
2. أن الإسلام غضا طريا لما يتأكد في قلوب الكثير من المسلمين بحيث قيام أي حرب داخلية معناه خروج الكثير ممن دخلوا الإسلام منه، بل الكثير منهم لم يتعرفوا على حقيقة الإسلام إذ كان العهد بهم قريب مما يعني أن حقيقة الإمامة والاستخلاف الإلهي لها لما يتأكد في قلوبهم، ناهيك على أن هناك من اعتبر النبوة ملك كأي ملك دنيوي ولذا إدارة حرب كهذه مع الخلفاء لن تفهم أبدا على أنها إرجاع الحق لأهله بل سيفهم الكثير من المسلمين على أنه منازعة على سلطان كما كان بين المسلمين في دار السقيفة عندما تنازعوا على أمر الخلافة وقد أشار أمير المؤمنين لذلك بقوله في بعض خطبه عندما خاطبه العباس و أبو سفيان ابن حرب في أن يبايعا له بالخلافة فقال: فإن أقل يقولوا : حرص على الملك ، و إن أسكت يقولوا : جزع من الموت هيهات بعد اللّتيّا والّتي واللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطّفل بثدي أمّه ، بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطّويّ البعيدة1
3. أن قيام حرب داخلية معناه استضعاف للمسلين للجبهات الخارجية التي كانت تتحين الفرصة للانقضاض على المسلمين وحرب كهذه بالتأكيد سوف تضعف صلابتهم مما يجعلهم طعمة سائغة للطامعين وبالتالي ينتقض الغرض الذي من شأنه بعثت الرسالة وهو نشر الإسلام على آفاق الأرض.
4. أن نشؤ حرب يديرها أمير المؤمنين عليه السلام يكون الغرض منها هو إلزام المسلمين على الإمامة بالإكراه ومن المعلوم أنه بعد بيان تمام الحجة من قبل النبي على المسلمين تكون التولي لأهل البيت اختيارية بمعناه القلبي والعملي، وتحقيق هذا الأمر لا يكون تحت صهيل الخيل وقعقعة اللجم، وعليه فإيصال المسلمين للحالة الاختيارية تحتاج إلى ممارسة مدروسة تنشئ في نفوس المسلمين حاجتهم إلى الإمام المعصوم، وهذا ما حدث فعلا عندما اصطك الناس على بيعة أمير المؤمنين عليه السلام بعد مقتل عثمان، فهيأ الأرضية المناسبة لدخول فكرة الخلافة المعصومة في الذهنية المسلمة، ويشهد بذلك قبوله الدخول في شورى الحكم التي وصى بها عمرا لانتخاب خليفة المسلمين بعده ففي شرح نهج البلاغة للقطب الراوندي: أن عمر لمَا قال كونوا مع الثلاثة التي عبد الرحمن فيها، قال ابن عباس لعلي عليه السلام: ذهب الأمر منا، الرجل يريد أن يكون الأمر في عثمان. فقال علي عليه السلام: وأنا أعلم ذلك، ولكني أدخل معهم في الشورى لأن عمر قد أهلني للخلافة، وكان قبل ذلك يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن النبوة والإمامة لا يجتمعان في بيت، فأنا أدخل في ذلك لأظهر للناس مناقضة فعله لروايته2 ، وبهذا فتح آفاق الفكر الإنساني على ما لم يكن موجودا في من سبقه بالخلافة مما أوضح بلا شك ولا ريب على القدرة العلمية الفائقة التي غابت عنهم بعد انتقال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله للرفيق الأعلى وهذا مما يذكره عليه السلام في الكثير من خطبه نذكر بعض مواضع الشاهد منها، ففي خطبته المعروفة بالشقشقية قال: "أما و اللّه لقد تقمّصها فلان و إنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحا. ينحدر عنّي السّيل، ولا يرقى إليّ الطّير"3 وفي نفس الخطبة قال: "فيا لله وللشّورى متى اعتراض الرّيب فيّ مع الأوّل منهم ، حتّى صرت أقرن إلى هذه النّظائر" فعبارة ينحدر عني السيل ولا يرقى إليّ الطير واضحة المعنى على سعة علمه وحنكته وحكمته ولذا استنكر في موضع آخر من الخطبة إقرانه بما هم دونه بكثير في الفضل والعلم والحكمة.
وفي خطبة له أخرى بعد أن بايع المسلمون أبا بكر قال: بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطّويّ البعيدة4 .
لهذه الأسباب وغيرها بايع علي ابن أبي طالب عليه السلام من هو دونه علما ومعرفة بأمور الدنيا والدين.
وأما الإمام الحسن عليه السلام فصالح كذلك لأسباب موضوعية اقتضت التنازل عن الحاكمية الدنيوية على رقاب المسلمين لمعاوية نذكر من جملتها:
1. أن مبايعة الناس للحسن عليه السلام ما كانت البيعة المبتنية على أساس أنه إمام معصوم منصوص من قبل الرسول الأكرم بل ابتنت على أنها خلافة للمسلمين كما هي حالها في الخليفة الأول والثاني والثالث بل وحتى لما اجتمع الناس على أمير المؤمنين كانوا يطلبون الخلافة التي لا تزال خالدة في أذهانهم من تولية من قبله ولذا رفضها في بادي الأمر وقال لهم دعوني والتمسوا غيري ولكن إصرارهم وتراصهم على باب أمير المؤمنين عليه السلام دفعه على قبولها وقد أشار بذلك في خطبته الشقشقية قائلا: " فما راعني إلا و الناس كعرف الضبع إلي، ينثالون علي من كل جانب، حتى لقد وطىء الحسنان و شق عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم .
بعد أن اشترط عليهم بأن يعمل فيهم ما يراه هو عليه السلام فقد قال لهم: " واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب"، وقد وافقوا على ذلك لكن مع هذا كما يقول في أواخر عمره الشريف عليه السلام في شقشقيته: فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ومرقت أخرى و فسق آخرون ، كأنهم لم يسمعوا اللّه تعالى يقول تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض و لا فسادا و العاقبة للمتقين. بلى و اللّه لقد سمعوها و وعوها، و لكنهم حليت الدنيا في أعينهم، و راقهم زبرجها.
على هكذا بويع الحسن عليه السلام كما بويع أبوه من قبل فصار الناس عندهم بيعة الحسن قابلة للمساومة والتنازل عنها لأنها لا تعبر أكثر من دور قيادي لأمور الدنيا ومتطلباتها فيجرون مشتهياتهم وغاياتهم فيها ولهذا مالوا إلى جانب معاوية لما منّاهم بالمناصب والأموال " وعمرت سوق الرشوات، وجاء في قائمة وعوده التي جلب بها ألباب كثير من الزعماء أو المتزعمين: رئاسة جيش، وولاية قطر، ومصاهرة على أميرة أموية !!.. وجاء في أرقام رشواته النقدية ألف ألف [مليون]!.
واستعمل في سبيل هذه الفكرة كل قواه وكل مواهبه وكل تجاربه، واستجاب له كثير من باعة الضمائر الذين كانوا لا يفارقون الحسن ظاهراً فإذا هم عيون معاوية التي ترى، وأصابعه التي تعمل، وعملاؤه الذين لا يدخرون وسعاً في ترويج أهدافه5" .
2. اعتقاد الناس في معاوية بأنه من أصحاب رسول الله وله المكانة السامية عنده بل أن بعض الناس كأهل الشام لم ينفتحوا على الإسلام إلا عن طريق الأمويين "فقد بعث أبو بكر يزيد بن أبي سفيان فقال له وهو مشيع له:إذا قدمت إلى أهل عملك فعدهم الخير... "6 ، وقد كان من سيرة معاوية التظاهر بالتدين وقد اشترى الرواة ليختلقوا له الروايات فقد قرب كعب الأحبار اليهودي الأصل " وقد عرف من تاريخ هذا الكاهن أنه تحول إلى الشام من عهد عثمان وعاش تحت كنف معاوية فاستصفاه لنفسه وجعله من خلصائه لكي يروي من أكاذيبه وإسرائيلياته ما شاء أن يروي في قصصه لتأييده، وتثبيت قوائم دولته"7 . "ولم يكن ما قدم أبو هريرة لمعاوية جهادا بسيف أو بماله، وإنما كان جهاده أحاديث ينشرها بين المسلمين يخذل بها أنصار علي ويطعن فيها عليه، ويجعل الناس يبرؤون منه، ويشيد بفضل معاوية ودولته. وقد كان مما رواه أحاديث في فضل عثمان ومعاوية وغيرهما مما يمت بأواصر القربى إلى أبي العاص وسائر بني أمية"8 وقد استعمل الدهاء والمكر والتمويه على المسلمين حتى أنه لما خرج لمحاربة الإمام علي عليه السلام حمل معه شعار المطالبة بدم عثمان. ولذا كان صلح الحسن عليه السلام مقدمة لفضح الملك الأموي وبيان حقيقة معاوية المتسترة بستار الدين والإسلام بعد أن أيقن عليه السلام أنه لا يمكن هزيمة جيش معاوية بمن معه من المتخاذلين والمنقسمين على أنفسهم ولذا وضع للصلح شروطا كان الإمام عليه السلام عارفا بان معاوية لا يفي بها " وتلك هي «الفذلكة» التي أجاد الحسن استغلالها كأحسن ما تكون الإجادة، واستغفل بها معاوية أشد ما يكون في موقفه من الحسن يقَظةً ونشاطاً وانتباهاً. انه لبى طلب معاوية للصلح، ولكنه لم يلبه إلا ليركسه في شروط لا يسع رجلاً كمعاوية إلا أن يجهر في غده القريب بنقضها شرطاً شرطاً. ثم لا يسع الناس - إذا هو فعل ذلك - إلا أن يجاهروه السخط والإنكار، فإذا بالصلح نواة السخط الممتد مع الأجيال، وإذا بهذا السخط نواة الثورات التي تعاونت على تصفية السيطرة الاغتصابية في التاريخ. وليكن هذا هو التصميم السياسي الذي نزل الحسن من طريقه إلى قبول الصلح، ولتكن هذه هي الفذلكة التي استغفل بها معاوية فكانت من أبرز معاني العبقرية المظلومة في الإمام المظلوم9 .
3. أن عدم صلح معاوية معناه فناء الشيعة كما يتضح ذلك من بعض المرويات فقد قال عليه السلام لأبي سعيد عقيصا: ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلا قتل وفي رواية أخرى عن أبي جعفر عليه السلام يقول لسدير بعد سؤاله عن صلح الحسن مستنكرا: اسكت فانه أعلم بما صنع، لولا ما صنع لكان أمر عظيم11 .
4. الحسن عليه السلام بصلحه لمعاوية فوت عليه إضفاء الشرعية على منصبه لأمور المسلمين وهو بخلاف لو تبارزا معا وانتصر معاوية حسب النواميس الطبيعية للدارسين لظروف المعركة، ففي الصلح استطاع الحسن أن يفرض شروطه أو يمليها عليه في عقد الصلح بحيث سلبت من معاوية مسمى أمير المؤمنين بل واستطاع الحسن عليه السلام التنصل من مبايعته، ولو كان الأمر غير ذلك كانتصار معاوية عسكريا فإنه لن يبقى أمام الحسن إلا أمرين إما أن يفني كل شيعة أمير المؤمنين عليه السلام بما فيهم نفسه أو أن يستسلم فيملي معاوية عليه شروطا ويفرضها بما يؤدي إلى شرعية حكومته ودون أن يحقق الحسن عليه السلام أي مكاسب للأمة الإسلامية تذكر، وهذا الأمر فيه وجه الحكمة فعن أبي سعيد عقيصا قال: قلت للحسن بن علي ابن أبي طالب (عليهما السلام): يا ابن رسول الله لم داهنت معاوية وصالحته، وقد علمت أن الحق لك دونه وأن معاوية ضال باغ؟
فقال: يابا سعيد ألست حجة الله تعالى ذكره على خلقه، وإماما عليهم بعد أبي (عليه السلام)؟ قلت: بلى، قال: ألست الذي قال رسول الله (صلى الله عليه واله) لي ولأخي: الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا؟ قلت: بلى، قال: فأنا إذن إمام لو قمت، وأنا إمام إذا قعدت، يابا سعيد علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول الله (صلى الله عليه واله) لبني ضمرة وبني أشجع، ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية، أولئك كفار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل، يابا سعيد إذا كنت إماما من قبل الله تعالى ذكره لم يجب أن يسفه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة، وإن كان وجهه الحكمة فيما أتيته ملتبسا.
ألا ترى الخضر (عليه السلام) لما خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار سخط موسى (عليه السلام) فعله، لاشتباه وجه الحكمة عليه حتى أخبره فرضي، هكذا أنا سخطتم علي بجهلكم بوجه الحكمة فيه، ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلا قتل12 .
عرض مبررات الإمام علي والإمام الحسن على الإمام الحسين عليهم السلام:
بعد عرض جملة الأسباب التي دعت الإمام علي عليه السلام يبايع أبا بكر والأسباب التي دعت الحسن يصالح معاوية سنقوم بعرضها على الإمام الحسين لنرى إن كان بالإمكان أن يكون هناك مبررا ولو واحدا منها يسوغ للحسين عليه السلام مبايعة يزيد لعنه الله.
المبرر الأول: ذكرنا أن الذين يؤمنون بأحقية الإمام علي عليه السلام لا يتجاوزون أصابع اليد بحيث يكون الدخول بهم في لهيب المواجهة هو إفناء لكل من يؤمن بأحقيته عليه السلام في الولاية، وهذا الأمر غير منطبق على الإمام الحسين عليه السلام إذ أن الذين يؤمنون بأحقيته قد توزعوا في مشارق الأرض ومغاربها بحيث يصعب على يزيد إفنائهم كلهم، وهذا الانتشار للموالين للإمامة المعصومة كان مخطط له تخطيطا محكما من قبل الإمام علي عليه السلام فهو في بداية العهد بعد وفاة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله استطاع أن يولد الإحساس عند المسلمين بالحاجة إليه في جميع ما يشكل عليهم من مسائل سواء دنيوية كانت أو دينية وهذا ما نلتمسه بكل صراحة في مقولات عمر بن الخطاب الشهيرة لولا علي لهلك عمر أو لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن علي، فعلي عليه السلام كانت تلك الشخصية الحاضرة في أذهان المسلمين لحل ما يشكل عليهم وبذلك بدأت نواة التشكل للمعتقدين بأحقيته للاستخلاف بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى ما إذا كان ما كان لعثمان تداك الناس عليه لقبول الخلافة وهو ما لم يحصل لأي خليفة من المسلمين لا بعده ولا قبله.
نعم الذين آمنوا بأحقيته للخلافة أكثرهم لم يكونوا يؤمنوا بخلافة الشرعية على نحو الجعل الإلهي له، ولكن مما لا ينكر أن أنصار الإمام علي الذين يؤمنون بأحقيته بالخلافة الإلهية قد كثروا عن ذي قبل، وقد استغل الحسن في تأصيل الخلافة أيما استغلال عندما صالح الحسن عليه السلام معاوية، فصار الموالون لأهل البيت كثر في كل مكان خصوصا وأن الإمام علي عليه السلام قد فرق شيعته ومواليه على أقطار الدولة الإسلامية بشكل جعلهم منار الهداية في تلك البقاع انتخب الإمام عليٌّ عليه السلام رجالاً من الذين أُبعدوا في عهد سابقيه دون أدنى سبب ، جعلهم مكان الولاة الذين ضجَّت الأُمَّة من سياستهم المنحرفة ، كالوليد بن أبي معيط ـ الذي سمَّاه القرآن فاسقاً ـ وعبد الله بن أبي سرح ، الذي انتفضت عليه مصر ، وعبد الله بن عامر ، ومعاوية الرجل المتجبِّر!
وأمَّا البدائل ، فهم : قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ، والأنصاريان الجليلان : سهل بن حنيف وعُثمان بن حنيف ، بدائل عن ابن أبي سرح وابن عامر ومعاوية ، على مصر والبصرة والشام. وجعل عبيد الله بن عبَّاس على اليمن ، وقثم بن عبَّاس على مكَّة13 . يقول عبد الزهراء عثمان محمد استعانة الإمام (عليه السلام) بجهاز من الولاة والموظفين لإدارة دفة الحياة الإسلامية يعدّ أفراده نموذجاً في مستواهم الروحي والفكري والالتزامي: كعثمان بن حنيف، ومحمد بن أبي بكر، ومالك الأشتر وسواهم.
على أن تلك النماذج الخيرة من الرجال، وإن كانوا في مستوى لائق في الفكر والعمل والقدرة الإدارية والقيادية، إلا أن الإمام (عليه السلام) قد زودهم بخط هادية ومناهج راشدة، يهتدون بها في حياتهم العملية، وفي علاقاتهم مع مختلف قطاعات الأمة التي يباشرون قيادتها14 .
ولذا نجد أن من نصح الإمام الحسين عليه السلام بعدم الذهاب للعراق كمحمد بن الحنفية قال له: فان خفت ذلك فصر إلى اليمن أو بعض نواحي البر ، فإنك أمنع الناس به ، ولا يقدر عليك أحد15 . لوجود جملة من الشيعة حسب ظن ابن الحنفية تكون مانعة من قتل الحسين عليه السلام إلا أنهم في الحقيقة وإن كانوا شيعة إلا أن المنعة لن تكون بالمستوى الذي سيحقن دم الحسين عليه السلام، ومثل الحسين هو أخبر بشيعته ومواليه إلى ذلك اليوم فلو كانت نواة دولة الحق تنطلق منهم لما وسعه عدم السعي نحوهم ولكن يظهر من عدم اللجوء إليهم هو عدم وصول أولئك الشيعة إلى المستوى المطلوب للقيام بالدور الرسالي المناط به عليه السلام، بل أن دمه الشريف ثبت ورسخ التشيع في نفوسهم.
المبرر الثاني: أن الإسلام في بعد وفاة النبي الأكرم غضا طريا والحرب الداخلية ستؤدي لخروج الكثيرين من دائرة الإسلام وستفهم الحرب على أنها حرب على ملك وأن الكثير لا يعلم بحقيقة الإسلام.
وهذا المبرر منتف في عهد الحسين عليه السلام لسنة 61 من الهجرة فهناك من تولد ونشاء في دار المسلمين أي أنه لم يعرفوا دينا سواه فلا يخاف على مثل هؤلاء الخروج من الدين ومن كان عهده قريبا أصبح عهده بالإسلام بعيدا حتى تأكد الإسلام منه بل أنه لا يجرأ أحد ممن أسلم إلى عهد الحسين أن يعلن عن جاهليته أو رغبته في الرجوع إلى الجاهلية، فحتى معاوية نفسه وهو من العتقاء أي أنه كان من أواخر اللذين دخلوا الإسلام على حياة النبي صلى الله عليه وآله كان يتظاهر بالحفاظ على الطقوس الدينية أمام الناس وأمام أهل الشام خاصة حتى أن المسعودي قال في ذكر جملة من أخلاقه وسياسته: " كان من أخلاق معاوية أنه كان يأذن في اليوم والليلة خمس مرات كان إذا صلى الفجر جلس للقاص حتى يفرغ من قصصه، ثم يدخل فيؤتى بمصحفه فيقرأ جزأه، ثم يدخل إلى منزله فيأمر وينهى، ثم يصلي أربع ركعات، ثم يخرج إلى مجلسه...إلى آخر كلامه16" .
نعم الذين دخلوا الدين متأخرين على عهد الخلفاء أو حتى في عصر معاوية فمثل هؤلاء لا يمكن التخوف على الإسلام من خروجهم لو فرض خصوصا بعد اتساع ارض المسلمين بل لا يمكن القول بخروجهم لأن عزة الإسلام أصبحت منيعة في نظر الآخرين وأصبح المسلم عزيزا به ويفتخر بإسلامه ولهذا لم يسمع بأن هناك أناس قد خرجوا من الدين بعد واقعة كربلاء، وهو على عكس ما قام به معاوية من مناهضة الإمام علي عيه السلام إذ خرجت بذرة الخوارج بتلاعبه بالمصاحف حين رفعه على رؤوس الرماح وابتلت الأمة الإسلامية منهم أي ابتلاء حتى أن أفكارهم بقت إلى يومنا هذه فيقولون بتكفير من ليس على شاكلتهم ووصفه بالشرك والكفر وأحلوا دماء حرمها الله بالإسلام.
وما يمكن أن يعلق في أذهان الآخرين على أن أمير المؤمنين لو حارب بعد وفاة الرسول الأكرم فهي منافسة على ملك لا تجري على الإمام الحسين، إذ أن استخلاف يزيد خرج عن الإطار الشرعي المقرون في أذهان الناس وأصبح بنظر الناس غاصبا للخلافة من أصحابها الحقيقيين إما لوجود البنود الصلح المتفق عليه بين الحسن عليه السلام ومعاوية وإما لكونه غير خليقا بها لكونه مجاهرا بالفسق وشرب الخمور ومولعا باللهو واللعب وهذا مما لم يعتده المسلمون ممن التمسوا الخلافة فجميعهم ظهر من حالهم أمام الناس أنهم يسيرون على هدي النبي صلى الله عليه وآله، وعليه لا تكون حرب الحسين ليزيد حربا على ملك بل حرب لإرجاع الخلافة لأهلها أو لبعث هدي النبي الأكرم في نفوس الناس ولذا قال عليه السلام " إني لم أخرج أشرا ولا بطرا وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنه عن المنكر"
المبرر الثالث: أن قيام حرب داخلية سيضعف الدولة الإسلامية من الداخل بحيث تكون مطمعا للأطماع الخارجية فهذا منتف بعد تغلب المسلمين على القوى الكبرى آنذاك وإضعافها ولذا لم يتوانى أمير المؤمنين عليه السلام في حرب معاوية ولم يخف من الأطماع الخارجية لأنها لا ترقى إلى منازلة المسلمين بعد أن جعلوا الفرس والروم يشكون الخوار والضعف على حرب المسلمين.
المبرر الرابع: أن عليا عليه السلام ما كان ليحارب كي تكون الولاية جبرية على المسلمين بعد أن ثبتت بالأدلة العقلية والشرعية فكانت كأي حكم من الأحكام التي لا تصح إلا بالاختيار والقصد بل أثبت أحقيته وأهليته لتولي الحكومة الشرعية بسكوته عن المطالبة بالحكم بعد أن أقصوه باختيارهم ، والحسين في خروجه لملاقاة المنية في كربلاء لم يقصد أن يجبر الناس على ولايته الشرعية بل هي ثابتة في قلوب المسلمين فقلوبهم كانت معه ولكن وسيوفهم عليه ولما كانت الدنيا هي مطمعهم والشيطان هو قائدهم فمال بهم على أن يختاروا مطامع الدنيا على مطامع الآخرة مع علمهم بأنهم يسلكون المسلك الخطأ، فقام الحسين عليه السلام بأبي وأمي طالبا للإصلاح وطلب الإصلاح يقتضي المدة الكافية للتغلغل في النفوس لكي يعدل الخط الذي اعوج ولذا قال عليه السلام: إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي. ولم يقل خرجت طالبا الحكم أو الملك.
وأي طالب للإصلاح لا يرجو أن ينال الثمار بمجرد قيامه للإصلاح بل يحتاج الإصلاح المدة الزمنية الكافية التي من شأنها أن تؤتي ثمارها على أكمل وجه، وهذا ما صنعه الحسين عليه السلام فلم يسقط الحسين حكومة يزيد أو دولة الأمويين بدمه مباشرة لكنه استطاع أن يقلع ما كان يصبو إليه الأمويين من إماتة دين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأبد واستطاع أن يثبت جذور شجرة الهداية التي غرسها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وقد أتت أكلها على مر الزمان والأجيال.
هذا بالإضافة إلى أن الحسين عليه السلام لم يبدأ الحرب بل أن يزيد لعنه الله لم يجعل مجالا لحياة الحسين عليه السلام إلا الذلة بمبايعته، ولذا كان الحسين في موقع الدفاع ليس عن شخصه ولكن على دين جده صلى الله عليه وآله وسلم الذي رآه الحسين عليه السلام يحتضر في أحضان بني أمية فصمم أن يسقيه بدم البقاء الأبدي من شفير العطش اليزيدي، راجعا به إلى أحضان التضحية والفداء الحسيني.
وبعد كل ما كان مبررا لعدم خوض الإمام علي عليه السلام حربا استشهادية لا يصلح أن يكون مبررا لرضوخ الحسين عليه السلام لمطالب يزيد عليه لعنة الله، فيبقى علينا أن ننظر في المبررات التي صاغت للحسن عليه السلام خط الصلح هل تصلح للحسين أن يعقد مثلها مع يزيد تخلصا من القتل.
المبرر الخامس: الإمام الحسن عليه السلام صالح لأن جيشه قد انقسم عليه وقبل الرشاوى والأماني بل وجبن بعض وعاداه بعض فقيمومته في الناس لا تكون وهي على هذا الحال، فحتى يبين لهم موضعه الحقيقي منها ويوعيهم سالم وصالح معاوية وهذا الأمر وإن كان له شبيه فإن أهل العراق راسلوا الحسين عليه السلام بعد استشهاد الحسن عليه السلام كما ينقل صاحب البحار: أقول: قال الشيخ المفيد في الإرشاد: روى الكلبي والمدائني وغيرهما من أصحاب السيرة قالوا: لما مات الحسن (عليه السلام) تحركت الشيعة بالعراق وكتبوا إلى الحسين (عليه السلام) في خلع معاوية والبيعة له، فامتنع عليهم، وذكر أن بينه وبين معاوية عهدا وعقدا لا يجوز له نقضه، حتى تمضي المدة، فإذا مات معاوية نظر في ذلك17 .
فالإجابة واضحة إذ نقض العهد الذي أبرم لا يمكن أن يكون من جانب الحسين عليه السلام فالشروط ما دامت باقية وأهم جزء فيها هو رجوع الخلافة للحسين بعد موت معاوية لا بد وأن يكون الحسين هو أولى من غيره بالحفاظ عليه وإلا لقيل أن الحسين طمع في الملك، ولذا صبر ولزم الصمت يترقب الأحداث، وبعد هلاك معاوية كثرت رسائل أهل الكوفة يبايعونه فيها ويحثونه على المجيء سريعا فإنه ليس عليهم إمام غيره، وبعد ذلك انقلب عليه أكثر أهل الكوفة بحيث خرجوا لقتاله، ولكن مع هذا هناك فارقان كبيران الأول: أن معاوية بن أبي سفيان نقض كل العهود المبرمة من جانبه عمليا إلا البند الذي ينص على تولي الخلافة من بعده للإمام الحسين عليه السلام وقد اطلع عليه المسلمون حتى أهل الشام وعليه لا يمكن وضع صلح آخر مع ابنه بعد أن كان يزيد لعنه الله هو طرف النقض العملي لهذا البند فأي صلح يقبل مع من علم أنه ناقض للعهد وهو بخلاف معاوية المجهول لنقضه للعهد قبل المصالحة مع الإمام الحسن عليه السلام إذ كانت تلك أول تجربة للمسلمين مع العهود الأموية. ثانيا: إن الإمام الحسين عليه السلام لم يكن في موضع السلطة الرسمية كالإمام الحسن عليه السلام ولم يكن بعد قد شكل جيشا لحماية الرسالة بل كل ما هناك أنه بعث رسوله الخاص مسلما يستطلع الحال منهم ويوثق ما راسلوه به ولذا لم تكن في رسالة الحسين لمسلم ما يوحي أنه مخول بتشكيل جيش أو التصرف بشكل القيادة العسكرية فلنقرأ رسالة الحسين لأهل الكوفة « قد نفذت إليكم ابن عمي مسلم ابن عقيل ليعرفني ما أنتم عليه من الرأي »18 ، فعند ذلك رد جواب كتبهم يمنيهم بالقبول و يعدهم بسرعة الوصول و أنه قد جاء ابن عمي مسلم بن عقيل ليعرفني ما أنتم عليه من رأي جميل19.
وذكر القرشي روايات مختلفة تحمل المعنى نفسه:
الأولى: رواها أبو حنيفة الدينوري وهذا نصها : " من الحسين بن علي إلى من بلغه كتابي هذا من أوليائه وشيعته بالكوفة، سلام عليكم، أما بعد : فقد أتتني كتبكم، وفهمت ما ذكرتم من محبتكم لقدومي عليكم وأنا باعث إليكم بأخي وابن عمي، وثقتي من أهلي مسلم بن عقيل ليعلم لي كنه أمركم، ويكتب إلي بما يتبين له من اجتماعكم فان كان أمركم على ما أتتني به كتبكم، وأخبرتني به رسلكم أسرعت القدوم إليكم إن شاء الله والسلام...
الثانية : رواها صفي الدين وقد جاء فيها بعد البسملة : " أما بعد فقد وصلتني كتبكم، وفهمت ما اقتضته آراؤكم، وقد بعثت إليكم ثقتي وابن عمي مسلم بن عقيل، وسأقدم عليكم وشيكا في أثره إن شاء الله...
وهذه الرواية شاذة إذ لم يذكر فيها مهمة مسلم في إيفاده إليهم من أخذ البيعة له، وغير ذلك مما هو من صميم الموضوع في إرسال مسلم .
الثالثة : رواها الطبري وقد جاء فيها بعد البسملة : " من الحسين بن علي إلى الملاء من المؤمنين والمسلمين أما بعد : فان هانئا وسعيدا قدما علي بكتبكم، وكانا آخر من قدم علي من رسلكم وقد فهمت كل الذي اقتصصتم، وذكرتم ومقالة جلكم، أنه ليس علينا إمام فاقبل لعل الله يجمعنا بك على الهدى والحق . وقد بعثت لكم أخي وابن عمي، وثقتي من أهل بيتي، وأمرته أن يكتب إلي بحالكم وأمركم ورأيكم، فان كتب أنه قد اجتمع رأي ملاكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت علي به رسلكم، وقرأت في كتبكم، أقدم عليكم وشيكا إن شاء الله، فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب والأخذ بالقسط والدائن بالحق، والحابس نفسه على ذات الله والسلام20...
فالنظر في كل ما روي عن فحوى رسالة الحسين على اختلاف ألفاظها لا يجد فيها أي مدلول على تشكيل جيش أو القيام بمهام الإمام بدلا عنه أو الجواز في خوض أي أمر من الأمور المتعلقة بالتصرف في الناس، وإنما أنيطت به مهمة واحدة وهي النظر عن قرب إلى حقيقة أمرهم فإن طابق حالهم كما جاءت به كتبهم قدم عليهم.
المبرر السادس: ما صنعه معاوية من الهالة القدسية له كصاحب من أصحاب رسول الله وما أضفى عليه من جلالة القدر بعدما استطاع جلب رواة اشتراهم بالأموال بل وما كان منه من تظاهر أمام الناس بالتدين واهتمامه بأمور المسلمين وجلبه للعلماء كان من شأن ذلك إيهام الكثيرين من المسلمين بأنه يطالب الحكم لا لنفسه بل لتطبيق الخلافة بين المسلمين فاستغل قميص عثمان كقضية محورية في حروبه ضد خلافة أمير المؤمنين وخلافة الحسن عليهما السلام، والصلح كشف للناس زيف ما يدعيه فسقط كل ما يدعيه، ولذا فإن ما كان مبررا للصلح للحسن عليه السلام من هذه الجهة لا يصلح أن يكون مبررا للإمام الحسين عليه السلام إذ يزيد كان مجاهرا بالفسق واللهو والقمار مما لا تسعفه المقولات الكاذبة لو أراد أن يثبت أحقيته للخلافة ولذا أعلنت الكوفة انقلابها على يزيد وتجاهرت بذلك وأصرت على قدوم الحسين عليه السلام لها بعد أن رأت أن القيد الذي منع الحسين عليه السلام من مواجهة معاوية من صلح قد انقطع.
إذا بعد عرض هذه المبررات لم يكن أمام الحسين عليه السلام إلا طريقا وحدا قد خط بالقلم الرباني هو سقيا شجرة الرسالة المحمدية بدمه الشريف الباقي ما بقي الدهر فيكون الدين شجرة غرست وارتوت من تراب كربلاء.
والحمد لله رب العالمين
مالك محمد علي درويش
27 ذو الحجة 1426 هـ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. الإمام علي عليه السلام، نهج البلاغة،خطبة 5
2. الري شهري، موسوعة الإمام علي عليه السلام،دار الحديث للطباعة، الطبعة الأولى 2000م، ج3 ص119
3. الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، نهج البلاغة، خطبة 3
4. نفس المصدر
5. صلح الإمام الحسن للسيد عبد الحسين شرف الدين ص248
6. مروج الذهب للمسعودي ط الثانية 1984،منشورات دار الهجرة، ج2 ص302
7. أضواء على السنة المحمدية لمحمود بن رية ص181
8. نفس المصدر ص214
9. صلح الإمام الحسن ص250
10. بحار الأنوار باب18 ح2 باب العلة التي من أجلها صالح الحسن
11. نفس المصدر ح1
12. نفس المصدر السابق
13. الإمام علي سيرة وتاريخ، مركز الرسالة ص 191
14. سيرة أمير المؤمنين لعبد الزهراء عثمان محمد
15. ابن طاووس، الملهوف على قتلى الطفوف، ص 128
16. مروج الذهب ومعادن الجوهر ج3 ص29
17. بحار الأنوار ج 37 ص 324
18. ابن طاووس، الملهوف، ص 108
19 مثير الأحزان ابن نما الحلي
20. محمد باقر شريف القرشي،حياة الإمام الحسين،مطبعة باقري، ط الرابعة 1992م، ج2 ص339
الحمد لله رب العالمين والصلاة على محمد وآله الطاهرين
مما قد يرتكز في بعض الأذهان سؤال عن عدم قبول الحسين لمبايعة يزيد لعنه الله مع أن أبوه أمير المؤمنين عليه السلام قد بايع ثلاث سلطات متتالية وهو لا يعتقد بشرعيتها، وفي الوقت نفسه صالح أخوه الحسن عليه السلام معاوية ردءا للقتل عن نفسه وأصحابه مع أنه لا يؤمن بشرعية معاوية.
فلماذا لا يبايع الحسين عليه السلام يزيدا عليه اللعنة كما بايع أبوه وأخوه عليهما السلام؟
قبل الجواب على ذلك علينا النظر في الفوارق بين مبايعة أمير المؤمنين ومصالحة الحسن عليهما السلام وبين البيعة ليزيد عليه لعنة الله.
ففي بيعة الإمام علي عليه السلام كانت هناك بعض الظروف الموضوعية التي من شأنها جبر الإمام عليه السلام على وضع يده مكرها في يد أبي بكر منها:
1. أن الذين آمنوا بأحقية أمير المؤمنين في الخلافة من غير أهل بيته بحيث يكونوا ناصريه على خصومه لا يتجاوز في لسان بعض الروايات أصابع اليد وتعريض هذه الثلة للفناء المؤكد هو إفناء لفكرة الخلافة المعصومة أصلا من حياة المسلمين وهو ناقض للغرض.
2. أن الإسلام غضا طريا لما يتأكد في قلوب الكثير من المسلمين بحيث قيام أي حرب داخلية معناه خروج الكثير ممن دخلوا الإسلام منه، بل الكثير منهم لم يتعرفوا على حقيقة الإسلام إذ كان العهد بهم قريب مما يعني أن حقيقة الإمامة والاستخلاف الإلهي لها لما يتأكد في قلوبهم، ناهيك على أن هناك من اعتبر النبوة ملك كأي ملك دنيوي ولذا إدارة حرب كهذه مع الخلفاء لن تفهم أبدا على أنها إرجاع الحق لأهله بل سيفهم الكثير من المسلمين على أنه منازعة على سلطان كما كان بين المسلمين في دار السقيفة عندما تنازعوا على أمر الخلافة وقد أشار أمير المؤمنين لذلك بقوله في بعض خطبه عندما خاطبه العباس و أبو سفيان ابن حرب في أن يبايعا له بالخلافة فقال: فإن أقل يقولوا : حرص على الملك ، و إن أسكت يقولوا : جزع من الموت هيهات بعد اللّتيّا والّتي واللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطّفل بثدي أمّه ، بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطّويّ البعيدة1
3. أن قيام حرب داخلية معناه استضعاف للمسلين للجبهات الخارجية التي كانت تتحين الفرصة للانقضاض على المسلمين وحرب كهذه بالتأكيد سوف تضعف صلابتهم مما يجعلهم طعمة سائغة للطامعين وبالتالي ينتقض الغرض الذي من شأنه بعثت الرسالة وهو نشر الإسلام على آفاق الأرض.
4. أن نشؤ حرب يديرها أمير المؤمنين عليه السلام يكون الغرض منها هو إلزام المسلمين على الإمامة بالإكراه ومن المعلوم أنه بعد بيان تمام الحجة من قبل النبي على المسلمين تكون التولي لأهل البيت اختيارية بمعناه القلبي والعملي، وتحقيق هذا الأمر لا يكون تحت صهيل الخيل وقعقعة اللجم، وعليه فإيصال المسلمين للحالة الاختيارية تحتاج إلى ممارسة مدروسة تنشئ في نفوس المسلمين حاجتهم إلى الإمام المعصوم، وهذا ما حدث فعلا عندما اصطك الناس على بيعة أمير المؤمنين عليه السلام بعد مقتل عثمان، فهيأ الأرضية المناسبة لدخول فكرة الخلافة المعصومة في الذهنية المسلمة، ويشهد بذلك قبوله الدخول في شورى الحكم التي وصى بها عمرا لانتخاب خليفة المسلمين بعده ففي شرح نهج البلاغة للقطب الراوندي: أن عمر لمَا قال كونوا مع الثلاثة التي عبد الرحمن فيها، قال ابن عباس لعلي عليه السلام: ذهب الأمر منا، الرجل يريد أن يكون الأمر في عثمان. فقال علي عليه السلام: وأنا أعلم ذلك، ولكني أدخل معهم في الشورى لأن عمر قد أهلني للخلافة، وكان قبل ذلك يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن النبوة والإمامة لا يجتمعان في بيت، فأنا أدخل في ذلك لأظهر للناس مناقضة فعله لروايته2 ، وبهذا فتح آفاق الفكر الإنساني على ما لم يكن موجودا في من سبقه بالخلافة مما أوضح بلا شك ولا ريب على القدرة العلمية الفائقة التي غابت عنهم بعد انتقال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله للرفيق الأعلى وهذا مما يذكره عليه السلام في الكثير من خطبه نذكر بعض مواضع الشاهد منها، ففي خطبته المعروفة بالشقشقية قال: "أما و اللّه لقد تقمّصها فلان و إنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحا. ينحدر عنّي السّيل، ولا يرقى إليّ الطّير"3 وفي نفس الخطبة قال: "فيا لله وللشّورى متى اعتراض الرّيب فيّ مع الأوّل منهم ، حتّى صرت أقرن إلى هذه النّظائر" فعبارة ينحدر عني السيل ولا يرقى إليّ الطير واضحة المعنى على سعة علمه وحنكته وحكمته ولذا استنكر في موضع آخر من الخطبة إقرانه بما هم دونه بكثير في الفضل والعلم والحكمة.
وفي خطبة له أخرى بعد أن بايع المسلمون أبا بكر قال: بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطّويّ البعيدة4 .
لهذه الأسباب وغيرها بايع علي ابن أبي طالب عليه السلام من هو دونه علما ومعرفة بأمور الدنيا والدين.
وأما الإمام الحسن عليه السلام فصالح كذلك لأسباب موضوعية اقتضت التنازل عن الحاكمية الدنيوية على رقاب المسلمين لمعاوية نذكر من جملتها:
1. أن مبايعة الناس للحسن عليه السلام ما كانت البيعة المبتنية على أساس أنه إمام معصوم منصوص من قبل الرسول الأكرم بل ابتنت على أنها خلافة للمسلمين كما هي حالها في الخليفة الأول والثاني والثالث بل وحتى لما اجتمع الناس على أمير المؤمنين كانوا يطلبون الخلافة التي لا تزال خالدة في أذهانهم من تولية من قبله ولذا رفضها في بادي الأمر وقال لهم دعوني والتمسوا غيري ولكن إصرارهم وتراصهم على باب أمير المؤمنين عليه السلام دفعه على قبولها وقد أشار بذلك في خطبته الشقشقية قائلا: " فما راعني إلا و الناس كعرف الضبع إلي، ينثالون علي من كل جانب، حتى لقد وطىء الحسنان و شق عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم .
بعد أن اشترط عليهم بأن يعمل فيهم ما يراه هو عليه السلام فقد قال لهم: " واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب"، وقد وافقوا على ذلك لكن مع هذا كما يقول في أواخر عمره الشريف عليه السلام في شقشقيته: فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ومرقت أخرى و فسق آخرون ، كأنهم لم يسمعوا اللّه تعالى يقول تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض و لا فسادا و العاقبة للمتقين. بلى و اللّه لقد سمعوها و وعوها، و لكنهم حليت الدنيا في أعينهم، و راقهم زبرجها.
على هكذا بويع الحسن عليه السلام كما بويع أبوه من قبل فصار الناس عندهم بيعة الحسن قابلة للمساومة والتنازل عنها لأنها لا تعبر أكثر من دور قيادي لأمور الدنيا ومتطلباتها فيجرون مشتهياتهم وغاياتهم فيها ولهذا مالوا إلى جانب معاوية لما منّاهم بالمناصب والأموال " وعمرت سوق الرشوات، وجاء في قائمة وعوده التي جلب بها ألباب كثير من الزعماء أو المتزعمين: رئاسة جيش، وولاية قطر، ومصاهرة على أميرة أموية !!.. وجاء في أرقام رشواته النقدية ألف ألف [مليون]!.
واستعمل في سبيل هذه الفكرة كل قواه وكل مواهبه وكل تجاربه، واستجاب له كثير من باعة الضمائر الذين كانوا لا يفارقون الحسن ظاهراً فإذا هم عيون معاوية التي ترى، وأصابعه التي تعمل، وعملاؤه الذين لا يدخرون وسعاً في ترويج أهدافه5" .
2. اعتقاد الناس في معاوية بأنه من أصحاب رسول الله وله المكانة السامية عنده بل أن بعض الناس كأهل الشام لم ينفتحوا على الإسلام إلا عن طريق الأمويين "فقد بعث أبو بكر يزيد بن أبي سفيان فقال له وهو مشيع له:إذا قدمت إلى أهل عملك فعدهم الخير... "6 ، وقد كان من سيرة معاوية التظاهر بالتدين وقد اشترى الرواة ليختلقوا له الروايات فقد قرب كعب الأحبار اليهودي الأصل " وقد عرف من تاريخ هذا الكاهن أنه تحول إلى الشام من عهد عثمان وعاش تحت كنف معاوية فاستصفاه لنفسه وجعله من خلصائه لكي يروي من أكاذيبه وإسرائيلياته ما شاء أن يروي في قصصه لتأييده، وتثبيت قوائم دولته"7 . "ولم يكن ما قدم أبو هريرة لمعاوية جهادا بسيف أو بماله، وإنما كان جهاده أحاديث ينشرها بين المسلمين يخذل بها أنصار علي ويطعن فيها عليه، ويجعل الناس يبرؤون منه، ويشيد بفضل معاوية ودولته. وقد كان مما رواه أحاديث في فضل عثمان ومعاوية وغيرهما مما يمت بأواصر القربى إلى أبي العاص وسائر بني أمية"8 وقد استعمل الدهاء والمكر والتمويه على المسلمين حتى أنه لما خرج لمحاربة الإمام علي عليه السلام حمل معه شعار المطالبة بدم عثمان. ولذا كان صلح الحسن عليه السلام مقدمة لفضح الملك الأموي وبيان حقيقة معاوية المتسترة بستار الدين والإسلام بعد أن أيقن عليه السلام أنه لا يمكن هزيمة جيش معاوية بمن معه من المتخاذلين والمنقسمين على أنفسهم ولذا وضع للصلح شروطا كان الإمام عليه السلام عارفا بان معاوية لا يفي بها " وتلك هي «الفذلكة» التي أجاد الحسن استغلالها كأحسن ما تكون الإجادة، واستغفل بها معاوية أشد ما يكون في موقفه من الحسن يقَظةً ونشاطاً وانتباهاً. انه لبى طلب معاوية للصلح، ولكنه لم يلبه إلا ليركسه في شروط لا يسع رجلاً كمعاوية إلا أن يجهر في غده القريب بنقضها شرطاً شرطاً. ثم لا يسع الناس - إذا هو فعل ذلك - إلا أن يجاهروه السخط والإنكار، فإذا بالصلح نواة السخط الممتد مع الأجيال، وإذا بهذا السخط نواة الثورات التي تعاونت على تصفية السيطرة الاغتصابية في التاريخ. وليكن هذا هو التصميم السياسي الذي نزل الحسن من طريقه إلى قبول الصلح، ولتكن هذه هي الفذلكة التي استغفل بها معاوية فكانت من أبرز معاني العبقرية المظلومة في الإمام المظلوم9 .
3. أن عدم صلح معاوية معناه فناء الشيعة كما يتضح ذلك من بعض المرويات فقد قال عليه السلام لأبي سعيد عقيصا: ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلا قتل وفي رواية أخرى عن أبي جعفر عليه السلام يقول لسدير بعد سؤاله عن صلح الحسن مستنكرا: اسكت فانه أعلم بما صنع، لولا ما صنع لكان أمر عظيم11 .
4. الحسن عليه السلام بصلحه لمعاوية فوت عليه إضفاء الشرعية على منصبه لأمور المسلمين وهو بخلاف لو تبارزا معا وانتصر معاوية حسب النواميس الطبيعية للدارسين لظروف المعركة، ففي الصلح استطاع الحسن أن يفرض شروطه أو يمليها عليه في عقد الصلح بحيث سلبت من معاوية مسمى أمير المؤمنين بل واستطاع الحسن عليه السلام التنصل من مبايعته، ولو كان الأمر غير ذلك كانتصار معاوية عسكريا فإنه لن يبقى أمام الحسن إلا أمرين إما أن يفني كل شيعة أمير المؤمنين عليه السلام بما فيهم نفسه أو أن يستسلم فيملي معاوية عليه شروطا ويفرضها بما يؤدي إلى شرعية حكومته ودون أن يحقق الحسن عليه السلام أي مكاسب للأمة الإسلامية تذكر، وهذا الأمر فيه وجه الحكمة فعن أبي سعيد عقيصا قال: قلت للحسن بن علي ابن أبي طالب (عليهما السلام): يا ابن رسول الله لم داهنت معاوية وصالحته، وقد علمت أن الحق لك دونه وأن معاوية ضال باغ؟
فقال: يابا سعيد ألست حجة الله تعالى ذكره على خلقه، وإماما عليهم بعد أبي (عليه السلام)؟ قلت: بلى، قال: ألست الذي قال رسول الله (صلى الله عليه واله) لي ولأخي: الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا؟ قلت: بلى، قال: فأنا إذن إمام لو قمت، وأنا إمام إذا قعدت، يابا سعيد علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول الله (صلى الله عليه واله) لبني ضمرة وبني أشجع، ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية، أولئك كفار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل، يابا سعيد إذا كنت إماما من قبل الله تعالى ذكره لم يجب أن يسفه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة، وإن كان وجهه الحكمة فيما أتيته ملتبسا.
ألا ترى الخضر (عليه السلام) لما خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار سخط موسى (عليه السلام) فعله، لاشتباه وجه الحكمة عليه حتى أخبره فرضي، هكذا أنا سخطتم علي بجهلكم بوجه الحكمة فيه، ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلا قتل12 .
عرض مبررات الإمام علي والإمام الحسن على الإمام الحسين عليهم السلام:
بعد عرض جملة الأسباب التي دعت الإمام علي عليه السلام يبايع أبا بكر والأسباب التي دعت الحسن يصالح معاوية سنقوم بعرضها على الإمام الحسين لنرى إن كان بالإمكان أن يكون هناك مبررا ولو واحدا منها يسوغ للحسين عليه السلام مبايعة يزيد لعنه الله.
المبرر الأول: ذكرنا أن الذين يؤمنون بأحقية الإمام علي عليه السلام لا يتجاوزون أصابع اليد بحيث يكون الدخول بهم في لهيب المواجهة هو إفناء لكل من يؤمن بأحقيته عليه السلام في الولاية، وهذا الأمر غير منطبق على الإمام الحسين عليه السلام إذ أن الذين يؤمنون بأحقيته قد توزعوا في مشارق الأرض ومغاربها بحيث يصعب على يزيد إفنائهم كلهم، وهذا الانتشار للموالين للإمامة المعصومة كان مخطط له تخطيطا محكما من قبل الإمام علي عليه السلام فهو في بداية العهد بعد وفاة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله استطاع أن يولد الإحساس عند المسلمين بالحاجة إليه في جميع ما يشكل عليهم من مسائل سواء دنيوية كانت أو دينية وهذا ما نلتمسه بكل صراحة في مقولات عمر بن الخطاب الشهيرة لولا علي لهلك عمر أو لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن علي، فعلي عليه السلام كانت تلك الشخصية الحاضرة في أذهان المسلمين لحل ما يشكل عليهم وبذلك بدأت نواة التشكل للمعتقدين بأحقيته للاستخلاف بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى ما إذا كان ما كان لعثمان تداك الناس عليه لقبول الخلافة وهو ما لم يحصل لأي خليفة من المسلمين لا بعده ولا قبله.
نعم الذين آمنوا بأحقيته للخلافة أكثرهم لم يكونوا يؤمنوا بخلافة الشرعية على نحو الجعل الإلهي له، ولكن مما لا ينكر أن أنصار الإمام علي الذين يؤمنون بأحقيته بالخلافة الإلهية قد كثروا عن ذي قبل، وقد استغل الحسن في تأصيل الخلافة أيما استغلال عندما صالح الحسن عليه السلام معاوية، فصار الموالون لأهل البيت كثر في كل مكان خصوصا وأن الإمام علي عليه السلام قد فرق شيعته ومواليه على أقطار الدولة الإسلامية بشكل جعلهم منار الهداية في تلك البقاع انتخب الإمام عليٌّ عليه السلام رجالاً من الذين أُبعدوا في عهد سابقيه دون أدنى سبب ، جعلهم مكان الولاة الذين ضجَّت الأُمَّة من سياستهم المنحرفة ، كالوليد بن أبي معيط ـ الذي سمَّاه القرآن فاسقاً ـ وعبد الله بن أبي سرح ، الذي انتفضت عليه مصر ، وعبد الله بن عامر ، ومعاوية الرجل المتجبِّر!
وأمَّا البدائل ، فهم : قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ، والأنصاريان الجليلان : سهل بن حنيف وعُثمان بن حنيف ، بدائل عن ابن أبي سرح وابن عامر ومعاوية ، على مصر والبصرة والشام. وجعل عبيد الله بن عبَّاس على اليمن ، وقثم بن عبَّاس على مكَّة13 . يقول عبد الزهراء عثمان محمد استعانة الإمام (عليه السلام) بجهاز من الولاة والموظفين لإدارة دفة الحياة الإسلامية يعدّ أفراده نموذجاً في مستواهم الروحي والفكري والالتزامي: كعثمان بن حنيف، ومحمد بن أبي بكر، ومالك الأشتر وسواهم.
على أن تلك النماذج الخيرة من الرجال، وإن كانوا في مستوى لائق في الفكر والعمل والقدرة الإدارية والقيادية، إلا أن الإمام (عليه السلام) قد زودهم بخط هادية ومناهج راشدة، يهتدون بها في حياتهم العملية، وفي علاقاتهم مع مختلف قطاعات الأمة التي يباشرون قيادتها14 .
ولذا نجد أن من نصح الإمام الحسين عليه السلام بعدم الذهاب للعراق كمحمد بن الحنفية قال له: فان خفت ذلك فصر إلى اليمن أو بعض نواحي البر ، فإنك أمنع الناس به ، ولا يقدر عليك أحد15 . لوجود جملة من الشيعة حسب ظن ابن الحنفية تكون مانعة من قتل الحسين عليه السلام إلا أنهم في الحقيقة وإن كانوا شيعة إلا أن المنعة لن تكون بالمستوى الذي سيحقن دم الحسين عليه السلام، ومثل الحسين هو أخبر بشيعته ومواليه إلى ذلك اليوم فلو كانت نواة دولة الحق تنطلق منهم لما وسعه عدم السعي نحوهم ولكن يظهر من عدم اللجوء إليهم هو عدم وصول أولئك الشيعة إلى المستوى المطلوب للقيام بالدور الرسالي المناط به عليه السلام، بل أن دمه الشريف ثبت ورسخ التشيع في نفوسهم.
المبرر الثاني: أن الإسلام في بعد وفاة النبي الأكرم غضا طريا والحرب الداخلية ستؤدي لخروج الكثيرين من دائرة الإسلام وستفهم الحرب على أنها حرب على ملك وأن الكثير لا يعلم بحقيقة الإسلام.
وهذا المبرر منتف في عهد الحسين عليه السلام لسنة 61 من الهجرة فهناك من تولد ونشاء في دار المسلمين أي أنه لم يعرفوا دينا سواه فلا يخاف على مثل هؤلاء الخروج من الدين ومن كان عهده قريبا أصبح عهده بالإسلام بعيدا حتى تأكد الإسلام منه بل أنه لا يجرأ أحد ممن أسلم إلى عهد الحسين أن يعلن عن جاهليته أو رغبته في الرجوع إلى الجاهلية، فحتى معاوية نفسه وهو من العتقاء أي أنه كان من أواخر اللذين دخلوا الإسلام على حياة النبي صلى الله عليه وآله كان يتظاهر بالحفاظ على الطقوس الدينية أمام الناس وأمام أهل الشام خاصة حتى أن المسعودي قال في ذكر جملة من أخلاقه وسياسته: " كان من أخلاق معاوية أنه كان يأذن في اليوم والليلة خمس مرات كان إذا صلى الفجر جلس للقاص حتى يفرغ من قصصه، ثم يدخل فيؤتى بمصحفه فيقرأ جزأه، ثم يدخل إلى منزله فيأمر وينهى، ثم يصلي أربع ركعات، ثم يخرج إلى مجلسه...إلى آخر كلامه16" .
نعم الذين دخلوا الدين متأخرين على عهد الخلفاء أو حتى في عصر معاوية فمثل هؤلاء لا يمكن التخوف على الإسلام من خروجهم لو فرض خصوصا بعد اتساع ارض المسلمين بل لا يمكن القول بخروجهم لأن عزة الإسلام أصبحت منيعة في نظر الآخرين وأصبح المسلم عزيزا به ويفتخر بإسلامه ولهذا لم يسمع بأن هناك أناس قد خرجوا من الدين بعد واقعة كربلاء، وهو على عكس ما قام به معاوية من مناهضة الإمام علي عيه السلام إذ خرجت بذرة الخوارج بتلاعبه بالمصاحف حين رفعه على رؤوس الرماح وابتلت الأمة الإسلامية منهم أي ابتلاء حتى أن أفكارهم بقت إلى يومنا هذه فيقولون بتكفير من ليس على شاكلتهم ووصفه بالشرك والكفر وأحلوا دماء حرمها الله بالإسلام.
وما يمكن أن يعلق في أذهان الآخرين على أن أمير المؤمنين لو حارب بعد وفاة الرسول الأكرم فهي منافسة على ملك لا تجري على الإمام الحسين، إذ أن استخلاف يزيد خرج عن الإطار الشرعي المقرون في أذهان الناس وأصبح بنظر الناس غاصبا للخلافة من أصحابها الحقيقيين إما لوجود البنود الصلح المتفق عليه بين الحسن عليه السلام ومعاوية وإما لكونه غير خليقا بها لكونه مجاهرا بالفسق وشرب الخمور ومولعا باللهو واللعب وهذا مما لم يعتده المسلمون ممن التمسوا الخلافة فجميعهم ظهر من حالهم أمام الناس أنهم يسيرون على هدي النبي صلى الله عليه وآله، وعليه لا تكون حرب الحسين ليزيد حربا على ملك بل حرب لإرجاع الخلافة لأهلها أو لبعث هدي النبي الأكرم في نفوس الناس ولذا قال عليه السلام " إني لم أخرج أشرا ولا بطرا وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنه عن المنكر"
المبرر الثالث: أن قيام حرب داخلية سيضعف الدولة الإسلامية من الداخل بحيث تكون مطمعا للأطماع الخارجية فهذا منتف بعد تغلب المسلمين على القوى الكبرى آنذاك وإضعافها ولذا لم يتوانى أمير المؤمنين عليه السلام في حرب معاوية ولم يخف من الأطماع الخارجية لأنها لا ترقى إلى منازلة المسلمين بعد أن جعلوا الفرس والروم يشكون الخوار والضعف على حرب المسلمين.
المبرر الرابع: أن عليا عليه السلام ما كان ليحارب كي تكون الولاية جبرية على المسلمين بعد أن ثبتت بالأدلة العقلية والشرعية فكانت كأي حكم من الأحكام التي لا تصح إلا بالاختيار والقصد بل أثبت أحقيته وأهليته لتولي الحكومة الشرعية بسكوته عن المطالبة بالحكم بعد أن أقصوه باختيارهم ، والحسين في خروجه لملاقاة المنية في كربلاء لم يقصد أن يجبر الناس على ولايته الشرعية بل هي ثابتة في قلوب المسلمين فقلوبهم كانت معه ولكن وسيوفهم عليه ولما كانت الدنيا هي مطمعهم والشيطان هو قائدهم فمال بهم على أن يختاروا مطامع الدنيا على مطامع الآخرة مع علمهم بأنهم يسلكون المسلك الخطأ، فقام الحسين عليه السلام بأبي وأمي طالبا للإصلاح وطلب الإصلاح يقتضي المدة الكافية للتغلغل في النفوس لكي يعدل الخط الذي اعوج ولذا قال عليه السلام: إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي. ولم يقل خرجت طالبا الحكم أو الملك.
وأي طالب للإصلاح لا يرجو أن ينال الثمار بمجرد قيامه للإصلاح بل يحتاج الإصلاح المدة الزمنية الكافية التي من شأنها أن تؤتي ثمارها على أكمل وجه، وهذا ما صنعه الحسين عليه السلام فلم يسقط الحسين حكومة يزيد أو دولة الأمويين بدمه مباشرة لكنه استطاع أن يقلع ما كان يصبو إليه الأمويين من إماتة دين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأبد واستطاع أن يثبت جذور شجرة الهداية التي غرسها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وقد أتت أكلها على مر الزمان والأجيال.
هذا بالإضافة إلى أن الحسين عليه السلام لم يبدأ الحرب بل أن يزيد لعنه الله لم يجعل مجالا لحياة الحسين عليه السلام إلا الذلة بمبايعته، ولذا كان الحسين في موقع الدفاع ليس عن شخصه ولكن على دين جده صلى الله عليه وآله وسلم الذي رآه الحسين عليه السلام يحتضر في أحضان بني أمية فصمم أن يسقيه بدم البقاء الأبدي من شفير العطش اليزيدي، راجعا به إلى أحضان التضحية والفداء الحسيني.
وبعد كل ما كان مبررا لعدم خوض الإمام علي عليه السلام حربا استشهادية لا يصلح أن يكون مبررا لرضوخ الحسين عليه السلام لمطالب يزيد عليه لعنة الله، فيبقى علينا أن ننظر في المبررات التي صاغت للحسن عليه السلام خط الصلح هل تصلح للحسين أن يعقد مثلها مع يزيد تخلصا من القتل.
المبرر الخامس: الإمام الحسن عليه السلام صالح لأن جيشه قد انقسم عليه وقبل الرشاوى والأماني بل وجبن بعض وعاداه بعض فقيمومته في الناس لا تكون وهي على هذا الحال، فحتى يبين لهم موضعه الحقيقي منها ويوعيهم سالم وصالح معاوية وهذا الأمر وإن كان له شبيه فإن أهل العراق راسلوا الحسين عليه السلام بعد استشهاد الحسن عليه السلام كما ينقل صاحب البحار: أقول: قال الشيخ المفيد في الإرشاد: روى الكلبي والمدائني وغيرهما من أصحاب السيرة قالوا: لما مات الحسن (عليه السلام) تحركت الشيعة بالعراق وكتبوا إلى الحسين (عليه السلام) في خلع معاوية والبيعة له، فامتنع عليهم، وذكر أن بينه وبين معاوية عهدا وعقدا لا يجوز له نقضه، حتى تمضي المدة، فإذا مات معاوية نظر في ذلك17 .
فالإجابة واضحة إذ نقض العهد الذي أبرم لا يمكن أن يكون من جانب الحسين عليه السلام فالشروط ما دامت باقية وأهم جزء فيها هو رجوع الخلافة للحسين بعد موت معاوية لا بد وأن يكون الحسين هو أولى من غيره بالحفاظ عليه وإلا لقيل أن الحسين طمع في الملك، ولذا صبر ولزم الصمت يترقب الأحداث، وبعد هلاك معاوية كثرت رسائل أهل الكوفة يبايعونه فيها ويحثونه على المجيء سريعا فإنه ليس عليهم إمام غيره، وبعد ذلك انقلب عليه أكثر أهل الكوفة بحيث خرجوا لقتاله، ولكن مع هذا هناك فارقان كبيران الأول: أن معاوية بن أبي سفيان نقض كل العهود المبرمة من جانبه عمليا إلا البند الذي ينص على تولي الخلافة من بعده للإمام الحسين عليه السلام وقد اطلع عليه المسلمون حتى أهل الشام وعليه لا يمكن وضع صلح آخر مع ابنه بعد أن كان يزيد لعنه الله هو طرف النقض العملي لهذا البند فأي صلح يقبل مع من علم أنه ناقض للعهد وهو بخلاف معاوية المجهول لنقضه للعهد قبل المصالحة مع الإمام الحسن عليه السلام إذ كانت تلك أول تجربة للمسلمين مع العهود الأموية. ثانيا: إن الإمام الحسين عليه السلام لم يكن في موضع السلطة الرسمية كالإمام الحسن عليه السلام ولم يكن بعد قد شكل جيشا لحماية الرسالة بل كل ما هناك أنه بعث رسوله الخاص مسلما يستطلع الحال منهم ويوثق ما راسلوه به ولذا لم تكن في رسالة الحسين لمسلم ما يوحي أنه مخول بتشكيل جيش أو التصرف بشكل القيادة العسكرية فلنقرأ رسالة الحسين لأهل الكوفة « قد نفذت إليكم ابن عمي مسلم ابن عقيل ليعرفني ما أنتم عليه من الرأي »18 ، فعند ذلك رد جواب كتبهم يمنيهم بالقبول و يعدهم بسرعة الوصول و أنه قد جاء ابن عمي مسلم بن عقيل ليعرفني ما أنتم عليه من رأي جميل19.
وذكر القرشي روايات مختلفة تحمل المعنى نفسه:
الأولى: رواها أبو حنيفة الدينوري وهذا نصها : " من الحسين بن علي إلى من بلغه كتابي هذا من أوليائه وشيعته بالكوفة، سلام عليكم، أما بعد : فقد أتتني كتبكم، وفهمت ما ذكرتم من محبتكم لقدومي عليكم وأنا باعث إليكم بأخي وابن عمي، وثقتي من أهلي مسلم بن عقيل ليعلم لي كنه أمركم، ويكتب إلي بما يتبين له من اجتماعكم فان كان أمركم على ما أتتني به كتبكم، وأخبرتني به رسلكم أسرعت القدوم إليكم إن شاء الله والسلام...
الثانية : رواها صفي الدين وقد جاء فيها بعد البسملة : " أما بعد فقد وصلتني كتبكم، وفهمت ما اقتضته آراؤكم، وقد بعثت إليكم ثقتي وابن عمي مسلم بن عقيل، وسأقدم عليكم وشيكا في أثره إن شاء الله...
وهذه الرواية شاذة إذ لم يذكر فيها مهمة مسلم في إيفاده إليهم من أخذ البيعة له، وغير ذلك مما هو من صميم الموضوع في إرسال مسلم .
الثالثة : رواها الطبري وقد جاء فيها بعد البسملة : " من الحسين بن علي إلى الملاء من المؤمنين والمسلمين أما بعد : فان هانئا وسعيدا قدما علي بكتبكم، وكانا آخر من قدم علي من رسلكم وقد فهمت كل الذي اقتصصتم، وذكرتم ومقالة جلكم، أنه ليس علينا إمام فاقبل لعل الله يجمعنا بك على الهدى والحق . وقد بعثت لكم أخي وابن عمي، وثقتي من أهل بيتي، وأمرته أن يكتب إلي بحالكم وأمركم ورأيكم، فان كتب أنه قد اجتمع رأي ملاكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت علي به رسلكم، وقرأت في كتبكم، أقدم عليكم وشيكا إن شاء الله، فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب والأخذ بالقسط والدائن بالحق، والحابس نفسه على ذات الله والسلام20...
فالنظر في كل ما روي عن فحوى رسالة الحسين على اختلاف ألفاظها لا يجد فيها أي مدلول على تشكيل جيش أو القيام بمهام الإمام بدلا عنه أو الجواز في خوض أي أمر من الأمور المتعلقة بالتصرف في الناس، وإنما أنيطت به مهمة واحدة وهي النظر عن قرب إلى حقيقة أمرهم فإن طابق حالهم كما جاءت به كتبهم قدم عليهم.
المبرر السادس: ما صنعه معاوية من الهالة القدسية له كصاحب من أصحاب رسول الله وما أضفى عليه من جلالة القدر بعدما استطاع جلب رواة اشتراهم بالأموال بل وما كان منه من تظاهر أمام الناس بالتدين واهتمامه بأمور المسلمين وجلبه للعلماء كان من شأن ذلك إيهام الكثيرين من المسلمين بأنه يطالب الحكم لا لنفسه بل لتطبيق الخلافة بين المسلمين فاستغل قميص عثمان كقضية محورية في حروبه ضد خلافة أمير المؤمنين وخلافة الحسن عليهما السلام، والصلح كشف للناس زيف ما يدعيه فسقط كل ما يدعيه، ولذا فإن ما كان مبررا للصلح للحسن عليه السلام من هذه الجهة لا يصلح أن يكون مبررا للإمام الحسين عليه السلام إذ يزيد كان مجاهرا بالفسق واللهو والقمار مما لا تسعفه المقولات الكاذبة لو أراد أن يثبت أحقيته للخلافة ولذا أعلنت الكوفة انقلابها على يزيد وتجاهرت بذلك وأصرت على قدوم الحسين عليه السلام لها بعد أن رأت أن القيد الذي منع الحسين عليه السلام من مواجهة معاوية من صلح قد انقطع.
إذا بعد عرض هذه المبررات لم يكن أمام الحسين عليه السلام إلا طريقا وحدا قد خط بالقلم الرباني هو سقيا شجرة الرسالة المحمدية بدمه الشريف الباقي ما بقي الدهر فيكون الدين شجرة غرست وارتوت من تراب كربلاء.
والحمد لله رب العالمين
مالك محمد علي درويش
27 ذو الحجة 1426 هـ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. الإمام علي عليه السلام، نهج البلاغة،خطبة 5
2. الري شهري، موسوعة الإمام علي عليه السلام،دار الحديث للطباعة، الطبعة الأولى 2000م، ج3 ص119
3. الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، نهج البلاغة، خطبة 3
4. نفس المصدر
5. صلح الإمام الحسن للسيد عبد الحسين شرف الدين ص248
6. مروج الذهب للمسعودي ط الثانية 1984،منشورات دار الهجرة، ج2 ص302
7. أضواء على السنة المحمدية لمحمود بن رية ص181
8. نفس المصدر ص214
9. صلح الإمام الحسن ص250
10. بحار الأنوار باب18 ح2 باب العلة التي من أجلها صالح الحسن
11. نفس المصدر ح1
12. نفس المصدر السابق
13. الإمام علي سيرة وتاريخ، مركز الرسالة ص 191
14. سيرة أمير المؤمنين لعبد الزهراء عثمان محمد
15. ابن طاووس، الملهوف على قتلى الطفوف، ص 128
16. مروج الذهب ومعادن الجوهر ج3 ص29
17. بحار الأنوار ج 37 ص 324
18. ابن طاووس، الملهوف، ص 108
19 مثير الأحزان ابن نما الحلي
20. محمد باقر شريف القرشي،حياة الإمام الحسين،مطبعة باقري، ط الرابعة 1992م، ج2 ص339
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق